كنا أطفالاً، وكنا ننشد بكل ما هو عربي وقومي، ونردد كل يومٍ في طابور الصباح: تحيا الأمة العربية! ومنذ ذلك الحين وعلى مر تسعة عقود متلاحقة، ونحن نرى أن عُرى الوحدة العربية تهوي واحدة تلو الأخرى! بل إن أناشيد القومية وأهازيج الوحدة كل يوم تتمزق حقائقها وتزيد الفرقة، وبعد أن كبرنا بدأت تتضح الرؤية، وتنجلى الصورة أكثر، فالأمة في شتات وصراع بيني، يقسمها في أحسن الأحوال لأربع مجاميع متضادة، بل إن اللقاءات التي تعقد في القمم العربية، وتتبعها بيانات منمقة عمومية تردد عبارات الوحدة والقومية، حقيقتها تضاد ومكائد وربما صراع يرتقي للاقتتال.

في خضم هذا المشهد لم يبقَ للوحدة غير اسمها ولا للأمة غير رسمها، فالشقاق كبير والأزمة بلغت مرحلة الأمر الجلل، ولا يصلح حالنا، بكل تأكيد، كيانات أقامها المستعمرون ليضمنوا تفرقنا عملاً بمبدأ فرّق تسد، ولا بترميم بنياننا وقوتنا هيكل اسمه الجامعة العربية، أُنشئ أساساً بمبادرة بريطانية، ليكون هيكلاً بديلاً عن الروابط والوشائج الطبيعية المتعددة التي تجمعنا، تاريخاً، ودماً، ولغة، وحضارة، وثقافة، وجغرافيا، ومصيراً مشتركاً، وجميعها أضعناها أو تهنا عنها بحثاً عن مظلة بديلة ينشئها الغرب، ودخلنا حالة دوران متنافر مع أقطاب ظاهرياً متنافسة، وحقيقتها متفقة على تدميرنا ونهب ثرواتنا، لأننا قبلنا أن نتخلى عن كل تلك الوشائج النابعة من انتمائنا العربي والمتجذرة في ديننا الإسلامي، وهما من أكسبا الأمة العربية عظمتها وتفوقها التاريخي.

Ad

ولعلها قد سنحت فرصة تاريخية لن تتكرر لأن نرى الحلم العربي يُبعث من جديد من تحت الركام الذي طال معظم حواضرنا الرائدة: العراق وسورية واليمن والسودان ولبنان وفلسطين في غزة وستتبعها الضفة، وحالة اللااستقرار في العديد من الحواضر الأخرى، وأخيراً المآسي التي تمر على الأمة في استباحة المقدسات بفلسطين، وحالة الفقر الشديد الذي تعيشه معظم شعوب الأمة، والتردي الاجتماعي والقيمي الذي يعصف بنا لكونها في مهب الرياح بلا سواتر ولا تماسك، ولكنها، ربما تكون اللحظات السانحة والحاسمة ليبعث الحلم العربي من جديد ولن يكون هذه المرة حلماً، بل واقعاً نصنعه ونحياه ونلتف حوله، كيف يكون ذلك؟! هو ما نحاول أن نجسد صورته ومكامنه وإرهاصاته.

إن لحظات الحلم العربي سانحة ليبعث من جديد، فمأساة غزة بكل بشاعتها التي بدأت حصراً وصارت قصفاً متواصلاً تحولت لتدمير كامل وإبادة جماعية وتطهير عرقي، واشتدت شراستها بتجويع مميت وتعطيش مهلك، وتدمير للمستشفيات ومجازر للكوادر الطبية ومنع للدواء، فكشفت غزة قيمة الإنسان الفلسطيني بل العربي لدى كيان صهيوني متوحش، وغرب بزعامة أميركية أكثر وحشية، فهو المحرك والمموّل ومن يبرمج دموع التماسيح علينا وصرخات حقوق الإنسان الخاوية، وقد كشفتهم أوكرانيا التي يتراكضون لإنقاذها وإيقاف الحرب عليها، رغم أنها دولة قائمة وغير محاصرة وتصلها أسلحتهم على مدار الساعة.

أما غزة فلا تحرّك لهم ساكناً، بل متواطئون بلغة تبرر للمجرم الصهيوني إجرامه، واختزال المشهد في 7 أكتوبر، وكأن التاريخ بدأ يومذاك، وكأنه ليس هناك 1936، ولا 1948، ولا 1956، ولا 1982، ولا 1993، ولا 2003، ولا غيرها من الأحداث اليومية على غزة، 77 عاماً اختزلت في يوم بسبب وحشيتهم وعدم اكتراثهم لآلاف القتلى العرب والمسلمين، مشهد تكرر في لبنان وفي سورية وفي العراق وفي اليمن، فزادت مأساتنا ومعاناتنا، وفهمنا، وعرفنا مكاننا عندهم، وأدركنا مصيرنا القادم، والدور سيكون متلاحقاً، الضفة فالقدس ثم الأردن وسورية وبعدها مصر والعراق حتى تتحقق إسرائيل الكبرى، ونحن سنكون مجرد ركام ونفايات ورماد في نظرهم.

نعم، لقد آن أوان نفض الركام وتبديد الرماد وكسر الحاجز لينهض العربي العزيز المقدام والمسلم الصادق القوي، ويعيد رسم مستقبله، بداية بتضامن كامل، ثم وقف التعامل مع الكيان ومع من يدعمه سياسياً ومالياً واقتصادياً، ومحاصرته برياً وبحرياً وجوياً، وطرد سفرائهم، حتى يروا قوة ووحدة الأمة وقدراتها المتكاملة التي ستوقف عجلة العالم برمته، وليس فقط كياناً لقيطاً يتكون من عصابات صهيونية، يجب طردها من فلسطين المحتلة ومن كل الدول العربية الأخرى، نعم، إنها لحظة بعث للحلم العربي من تحت الركام.