أعلنت وزارة الداخلية، أخيراً، قرارها فتح باب التأشيرات على نطاق واسع عبر منصة كويت فيزا، في خطوة تعكس رؤية جديدة لتنشيط الاقتصاد وتعزيز موقع الكويت الإقليمي. القرار بحد ذاته متكامل، إذ يجمع بين المرونة والانضباط، ويضع الكويت في صف الدول التي نجحت في تحديث أنظمتها وفق المعايير العالمية، لكن المتابعة الحثيثة للنقاش الدائر في منصات التواصل الاجتماعي تكشف لنا صورة أخرى: مخاوف تتكرر، وانتقادات تتسع، كثير منها عن حسن نية، وبعضها عن رغبة في الاعتراض لمجرد الاعتراض.
أكثر ما تردد هو أن هذا الانفتاح سيؤدي إلى ازدحام في المستشفيات والمستوصفات، وأن الخدمات الصحية ستُرهق، لكن حين تواصلت مع العقيد عبدالعزيز الكندري، المسؤول عن المنصة، أوضح أن القادم بتأشيرة زيارة أو سياحة لا يحق له تلقي العلاج الحكومي المجاني، بل يلتزم برسوم محددة أو تأمين صحي مسبق، في حين يظل النظام الصحي الحكومي مخصصاً للمواطنين والمقيمين الدائمين، أي أن القرار لا يشكل عبئاً على الخدمات الطبية العامة، بل يضمن أن أي خدمة يحصل عليها الزائر تكون بتمويله الخاص.
البعض رأى أن المطار سيتحول إلى طوابير طويلة بسبب كثرة المراجعين، وأن الموظف لن يعرف كيف يحدد القرابة من الدرجة الرابعة، غير أن المنصة مصممة لتفصل في الطلب قبل وصول الشخص إلى الكويت، أي أن المقبول يعرف وضعه مسبقاً ولا يُترك الأمر لموظف المطار، أما مسألة القرابة فتُعالج إلكترونياً عبر المستندات الرسمية التي يتم رفعها على النظام، فلا يكون الموظف في المطار مضطراً إلى بحثها في لحظة العبور.
انتقاد آخر انصبّ على أن القرار قد يفتح الباب لدخول جنسيات ومهن ضعيفة اقتصادياً، مما قد يشكل ضغطاً على البنية التحتية، لكن الحقيقة أن النظام مصمم على أساس فئات دقيقة: بعض الفئات تخص المقيمين في الخليج أو الحاصلين على تأشيرات أميركية وأوروبية، وفئات أخرى يُطلب منها إثبات الملاءة المالية بكشوف الحسابات البنكية، بمعنى أن الباب ليس مفتوحاً بلا ضوابط، وإنما وفق معايير واضحة تضمن الجودة.
وهناك من قال إن القرار سيزيد من مخالفات الإقامة أو أن بعض الوافدين سيحضرون أقاربهم للعمل بطريقة غير نظامية، لكن ما أوضحه العقيد الكندري أن القانون في هذه النقطة صارم وحاسم: إذا تم ضبط وافد استقدم قريباً للعمل في غير المصرح به، يُرحَّل الاثنان معاً، وقد تُفرض غرامات مالية، وهذا يجعل الفكرة مغامرة غير منطقية، لأن المخاطرة ستشمل الوافد نفسه، وبذلك يصبح استقدام الأقارب للعمل شبه مستحيل عملياً، وهو ما يُفند أحد أبرز الانتقادات التي انتشرت.
كما ظهرت مخاوف من أن القرار قد يضغط على خدمات الدولة الأخرى، مثل المرور والأمن، لكن الربط الإلكتروني بين المنصة والجهات الحكومية يضمن أن كل تأشيرة مرتبطة برقابة مباشرة، فلا مجال لتكدس غير محسوب، أما الحديث عن منافسة المواطنين في سوق العمل فهو خلط واضح، لأن القرار لا يخص العمالة، بل السياحة والزيارة، وسوق العمل تحكمه أنظمة أخرى صارمة.
حتى من تحدث عن المدارس والطرق والبنية التحتية، أغفل أن التأشيرة بطبيعتها مؤقتة، ولا تسمح بإقامة طويلة الأمد تُرهق المرافق، بل على العكس، الزائر ينفق ويستهلك في السوق المحلي، وهو ما يعني عائداً اقتصادياً مباشراً للكويت، أما التخوف الصحي من انتشار الأمراض، فقد طمأن الكندري بأن الفحوص والإجراءات قائمة، والكويت لا تختلف عن أي دولة متقدمة فتحت أبوابها للسياحة والاستثمار.
وتحدث الشيخ فهد اليوسف عن المطار الجديد الذي سوف يستقبل خمسة وعشرين مليون راكب، ولا بد أن يواكبه انفتاح في التأشيرات، وأكد ذات الجملة الأستاذ جاسم السعدون... ولو نظرنا لدول الخليج لوجدنا أمثلة واضحة، فالمملكة السعودية، التي كانت الأكثر تحفظاً، انفتحت في عصر تنويع الاقتصاد وقبلها الإمارات.
ما أخلص إليه أن الانتقادات، رغم كثرتها، لم تكشف عن ثغرة حقيقية، بل عن حاجة ماسة إلى شرح وتوضيح أكبر. البيان الصحافي التقليدي لم يعد يكفي، في وقت أصبحت السوشيال ميديا قادرة على تشويه أي حقيقة إذا تُركت بلا رد. والحق أن العقيد عبدالعزيز الكندري كان حاضراً ومتجاوباً، أجاب عن الاستفسارات بلغة هادئة ومقنعة، وأكد أن القرار مُحكم ومدروس، لكن هذا الجهد الفردي يجب أن يتسع عبر استراتيجية إعلامية مؤسسية، تُخاطب الناس مباشرة وتفنّد الشائعات أولاً فأولا.
القرار في جوهره خطوة صائبة للكويت، يفتح أبوابها أمام العالم، ويعزز اقتصادها، ويرسخ صورتها كدولة منفتحة ومنظمة، لكن نجاحه لن يُقاس بنصوصه وحدها، بل أيضاً بقدرتنا على إيصال رسالته بوضوح إلى الناس. هنا يأتي دور الإعلام الرقمي في وزارة الداخلية: ليس مجرد إصدار بيان، بل حضور متواصل يواجه التشويش بالمعلومة الصحيحة، ويعيد الثقة للجمهور بأن القرارات الكبرى في الكويت لا تُتخذ ارتجالاً، بل تُبنى على دراسة ورؤية بعيدة المدى.
وبين الضجيج والحقيقة، يظل المؤكد أن الكويت تمضي في مسار إصلاحي جديد، يحتاج إلى وعي الناس بقدر ما يحتاج إلى قوة القانون. وما وجدته في حواري مع العقيد الكندري وفريقه أن هذه الرؤية موجودة، وأن التطبيق جاد، وأن ما تبقى هو أن نعزز قنوات التواصل حتى لا تضيع الصورة الكبيرة وسط تفاصيل صغيرة.
* وزير الصحة الأسبق