منذ أيام قليلة، ضجّت الصحف العالمية بخبر بدا عابراً للوهلة الأولى، طلاب من جامعة قرروا ترك مقاعد الدراسة، ولكن الذي لم يكن عادياً وصادماً هو أنهم طلبة جامعة هارفارد، أعرق جامعات العالم، لم يتركوها كسلاً أو يأساً، بل ليلتحقوا بمؤسسات تبحث في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، حيث أدركوا أن الخطر الحقيقي لم يعد في امتحان صعب أو وظيفة ضائعة، بل في السيطرة على العقول عبر البيانات.

ثمة إنذار مبكر حمله هذا الخبر بأن الحقيقة التي يجب أن ندركها أن الذكاء الاصطناعي ليس عقلاً مستقلاً يفكر بمعزل عن تأثيرنا. فهو كالطفل الذي نغذيه وما نضعه فيه من بيانات هي التي ستحدد شخصيته وقيمه وطريقة حكمه على الأمور، وهنا تكمن المعضلة الحقيقية في أن من يملك هذه البيانات، يملك القدرة على زرع قيمه ورؤيته للعالم داخل هذه الخوارزميات، ثم ستعود لتعرضها علينا وكأنها حقائق مطلقة.

Ad

تخيل للحظة أنك تعطي مفاتيح منزلك لشخص غريب، وتطلب منه إعادة ترتيب كل شيء فيه، ستعود لتجد البيت منظماً ومرتباً بشكل مثالي، لكنك ستشعر وكأنك غريب، وكأن هذا المكان لم يعد يشبهك، هذا بالضبط ما يحدث عندما نسمح للآخرين ببناء وعينا اعتماداً على بيانات لا نملكها ولا نسيطر عليها.

طلاب هارفارد فهموا هذه المعادلة باكراً، وأدركوا أن الحرب القادمة ستكون على البيانات والقدرة على كتابة القيم داخل خوارزميات المستقبل، بينما ما زلنا نحن في عالمنا العربي ننظر للذكاء الاصطناعي وكأنه مجرد أداة ترفيه أو وسيلة ترجمة، نتعامل معه كموضة عابرة، متجاهلين حقيقة أنه سلاح ناعم يعيد تشكيل ثقافتنا ويصيغ أذواقنا وقراراتنا اليومية بطريقة خفية.

من يقرأ التاريخ جيداً يعلم أن الحضارات لم تسقط لأن مواردها الطبيعية نفدت، بل لأنها أصبحت اتكالية وفقدت القدرة على التفكير بعقلها الخاص واعتمدت على عقول الآخرين. واليوم يتكرر نفس المشهد أمام أعيننا، ولكن بأدوات جديدة، نحن لم نعد مستهلكين للمنتجات فحسب بل أصبحنا نتلقى قيماً وأخلاقيات ومفاهيم مغلفة بخوارزميات تبدو بريئة، لكنها في الحقيقة تعيد صياغة وعي أجيال كاملة دون أن ندرك ذلك.

هل نهرب ونوقف التكنولوجيا؟ أبداً مستحيل وكأنه يعني أن نطالبك بأن تعيش في كهف لوحدك. إن الحل لا يكمن في الهروب من التقنية أو محاولة إيقاف عجلة التطور، بل إن الحل الواقعي يكمن في أن نمتلك هذه التقنيات ونطوعها لخدمتنا، أن نبني مراكز البيانات الخاصة بنا، وأن نطور خوارزميات تفهم لغتنا وتعكس قيمنا وأخلاقياتنا، أن نضع قوانين صارمة تحمي خصوصيتنا وهويتنا الثقافية.

إن جل المعركة الحقيقية ليست بين الإنسان والآلة، بل هي معركة بين إنسان وآخر، ولكنها تدور على أرض جديدة تماماً هي أرض الذكاء الاصطناعي، ومن ينجح في زراعة هذه الأرض اليوم بقيمه ومبادئه سيكون هو من يحصد عقول الأجيال القادمة غداً.

إن الوقت يمر بسرعة البرق، الحل واضح الآن، إما أن نكتب قصة مستقبلنا بأيدينا ونزرع قيمنا في خوارزميات الغد، وإما أن نستيقظ «يوماً ما» متأخرين جداً لنكتشف أن وعينا وثقافتنا قد تمت صياغتهما وتشكيلهما بالكامل على مقاس وأخلاقيات لا تشبهنا ولا تمثلنا.