قدّم الشعب السوري في ثورته مئات الآلاف من الشهداء، وملايين المهجّرين، للخلاص من نظام الحكم الفردي.
هذه الثورة، التي تداخلت فيها الأهداف وتنوعت الغايات، تحوّلت إلى مسرحٍ لصراعات القوى الإقليمية والدولية، فلم تبقَ قوةٌ إلا وكان لها موطئ قدم على أرض سورية.
لقد اختُطِفت ثورة السوريين عشرات المرات، بعد أن تقاطرت إليها الفصائل والمقاتلون من مختلف بقاع الأرض، ورفع كثير منهم شعاراتٍ إقصائية لا تقبل التنوّع، فاختلطت الجماعات التكفيرية بالمصالح الإقليمية والدولية، وسط نظامٍ بعثيٍّ مستبد، وكان الثمن باهظاً دفعه السوريون من دمائهم وأرواحهم.
انقسمت الآراء بين مؤيدٍ ومعارض، لا حباً في النظام، بل خوفاً مما ستؤول إليه الأوضاع، قلقاً على مصير سورية، وعلى حجم الفاتورة التي يجب على الشعب دفعها.
سقوط النظام بدا أسرع من المتوقع، إذ انهار بطريقة دراماتيكية وسط فرحة شعبية واسعة، لكن ما يُدبَّر في الخفاء وربما في العلن يكشف أن الأمور لم تُحسم بعد، فإسرائيل بطبيعة الحال لا يمكن أن تقبل بوجود دولة قوية على حدودها قد تشكل خطراً مستقبلياً عليها.
استطاع الإعلام الغربي والعربي ترسيخ صورة النظام على أنه ظالم، وهذا أمر لم يُنكَر، لكن كم من الأنظمة يفوقه في الظلم؟ ولماذا يُسمح للصهاينة بتدمير القدرات العسكرية والمنشآت الحيوية، وضمّ أجزاء من سورية دون رد؟ ولماذا تصمت الإدارة السورية الجديدة؟ أسئلة تستحق التوقف عندها!
المشهد الأخير تمّ برعاية أميركية ــ إسرائيلية ــ تركية ــ روسية، لكنه بلا شك بعيد كل البعد عن الإرادة الشعبية السورية.
الخلاص من نظام البعث جاء بعد حقبة مريرة، لكن الفرحة لم تكتمل، إذ تلوح في الأفق بوادر حربٍ طائفية وعرقية تهدّد هذا الشعب الذي لم يذق طعم الراحة بعد.
مشروع تقسيم سورية جزء من مخطط صهيوني واسع، لا يمكن فصله عن مجمل أحداث المنطقة، من لبنان إلى غزة، ومن العراق إلى اليمن، ومن مصر إلى إيران، بل لعلّ المشروع يشمل منطقة الشرق الأوسط بأسرها، حيث تسعى الإدارة الأميركية والإسرائيلية لرسم خريطتها الجديدة على هواها.
لكن لماذا سورية الآن بالتحديد؟ وما الأدوات اللازمة لتنفيذ هذا المخطط؟ أسئلة أيضاً تستحق البحث والتأمل.
سورية بلد متنوع الأعراق والأديان، وقد عاش هذا التنوّع في حالة من التعايش النسبي منذ قرون، تعاقب على حكمها المسيحيون، والأمويون، والأتراك، والأكراد، والشيعة، والعلويون، لكنها تظل بلد المسجد الأموي، ومن مقربةٍ منه مقام للسيدة رقية، وهناك في الطرف الآخر من المدينة تقف كنيسة حنانيا لتحاكي الزمن.
من له مصلحة في تأجيج الطائفية والعرقية في سورية غير الصهاينة ومن يسير على نهجهم؟ ولماذا يُرفَع اليوم شعار «عودة الدولة الأموية» دون غيره، وفي هذا التوقيت بالذات؟ وما الرسالة القومية المراد تمريرها؟
تولي أحمد الشرع السلطة لا يُحدِث فرقاً كبيراً رغم عبء الماضي وصعوبة الحاضر، إذا ما نذر نفسه لخدمة مصالح سورية الاستراتيجية والقومية.
سياسة الاحتواء يجب أن تكون من مسؤولية الأغلبية، التي عليها أن تطمئن الأقليات العرقية والدينية، وتؤكّد أنهم مواطنون كاملو الأهلية، متساوون في الحقوق والواجبات مما يتوجب على الحكومة السورية الحالية أن تتعامل وفق هذه المبادئ، وألا تسمح بإقصاء أيّ مكوِّن من مكونات المجتمع السوري، أياً كان.
إسرائيل لن تكتفي بالتطبيع، وقد لا يكفيها الخضوع والانصياع التام، والذي صفّق لها بالأمس ووثق بها اليوم، سيبكي كثيراً بالغد.
ودمتم سالمين