أقف على قارعة العمر، أنظر في وجوه الناس... لا أكتفي بالنظر، بل أتمعن... أقرأ ما وراء الجلد والملامح، أتتبع ما لا يُقال... ففي كل عين حكاية، وفي كل ملامح قصة لم تُكتب، وفي كل نظرة رسالة تُرسل دون أن تُوقّع. أحياناً أجد في العيون حبّاً يفيض حتى يكاد يفيض من محجره، وأحياناً أسمع - دون أن تُنطق - قصصاً تمزق القلب... قصصاً تُروى بلغة الصمت، تتسرب من رعشة الجفن، أو انحناءة الحاجب، أو حتى من مسافة الصمت بين الكلمة والكلمة. أتتبع الحروف وهي تتشكل على الشفاه... أسمع الهمهمة الخافتة، وألحان الكلمات المكسورة، وحتى نغمة النَّفَس حين يثقل الصدر بالحمل، فأدرك أن بعض القلوب تتكلم بلغة لا تُسمع، وأن بعض الجروح تصرخ بلا صوت. أقرأ في الوجوه كما يقرأ السطورَ قارئٌ ماهر، لكن السطور هنا محفورة بالدمع والابتسامات المتكسرة. وأتذكر قول الحق، سبحانه: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾.
إنها البصمة الإلهية في علم الوجوه... حيث تنطق العين قبل اللسان، ويشي اللحن قبل البيان. فالعيون - مهما حاول أصحابها إخفاءها - تُفصح عن مكنون القلب... وفيها يُقرأ الحب والبغض، الأمان والخوف، الصدق والكذب. واللسان - مهما زُيّن بالحروف - يظل شاهداً على القلب، يفضح ما فيه حين يزلّ أو حين يلين. هنا، في مسرح الجريمة الصامت، لا نبحث فقط عن البصمة في زوايا الغرف، بل عن البصمة في وجوه الناس... لا نقرأ فقط آثار الأقدام على الأرض، بل آثار الحزن في العيون، وآثار الخوف في الرمش المرتجف، وآثار الكذب في الكلمة المتلعثمة. فالوجوه، أيها السادة، مسارح مفتوحة... والشاهد الصامت قد لا يكون حجراً أو دماً... بل قد يكون نظرة عابرة، أو دمعة سقطت فجأة، أو عيناً انكسرت حين التقت بعين أخرى... دمتم بود.