في أحد مستشفيات إنكلترا، كانت مريضة مسنّة تنتظر منذ أسابيع الموافقة على عملية ضرورية. الأطباء جاهزون، والغرفة محجوزة، وكل شيء في مكانه، لكن الملف ما زال عالقاً في سلسلة طويلة من التواقيع والمراجعات. ما السبب؟ إجراءات «حوكمة» جديدة، أُضيفت بحسن نية لضمان الشفافية والمساءلة، لكنها تحولت على أرض الواقع إلى حواجز تُبطئ العمل بدل تسهيله. هذا المشهد ليس حالة فردية، بل مثال حي على ما يمكن أن يحدث حين تتحول الحوكمة من أداة لتحقيق الكفاءة والشفافية وتعزيز المساءلة إلى منظومة شكلية مثقلة بالتعقيد والبيروقراطية. ‏

في عام 2012 أطلقت هيئة الخدمات الصحية الوطنية في إنكلترا (NHS England) إصلاحات لتعزيز الحوكمة والمساءلة في المستشفيات والعيادات. ورقياً، كانت الخطة طموحة: إنشاء هياكل رقابية جديدة، وتقييمات دورية، وتوحيد الموافقات. الهدف المعلن كان تحسين جودة الخدمات وضمان الاستخدام الأمثل للموارد. لكن ما حدث عملياً كان مختلفاً. فقد أضافت هذه الإصلاحات مستويات جديدة من الموافقات والإجراءات، ما جعل الأطباء والممرضين يقضون وقتاً أطول في التقارير والنماذج بدل التركيز على المرضى! تقرير Lord Darzi - وهو أحد أهم المراجعات المستقلة لهيكل NHS - وصف الأمر بوضوح: «الهيكل التنظيمي الحالي معقد وغير متماسك، يعوق سرعة اتخاذ القرار، ويخلق طبقات من الإدارة لا تضيف قيمة ملموسة للرعاية، بل تزيد الضغط على الموارد البشرية والمالية».

هذا المثال يُظهر أن الحوكمة ليست غاية في حد ذاتها، بل أداة لتمكين المؤسسة من العمل بكفاءة وشفافية وسد الثغرات التي يتسلل منها الفساد. وإذا لم تُصمم سياسات وإجراءات الحوكمة بطريقة حصيفة تراعي واقع العمل، فإنها تتحول إلى «قيود» تضر ولا تنفع. لذلك فإنّ القيادة الواعية تعرف أن الحوكمة الناجحة هي التي توازن بين الرقابة والمرونة، بين المساءلة وسلاسة الإجراءات، بحيث تعزز النزاهة دون أن تُعطّل العمل.

Ad

ما أود قوله، في النهاية، هو أن الحوكمة ليست شعاراً يُرفع بلا مضمون، وليست كذلك إجراءات تُفرض تعسفياً بلا تأهيل وتمكين، بل هي نظامٌ يوضع للارتقاء وليس للتعقيد أو الإبطاء، ولن تحقق الحوكمة أهدافها في حال تم التعامل معها من قبل هُواة متحمسين لا يدركون جوهرها، فيضرُّون وهم لا يشعرون، أو كما قيل في الأمثال الكويتية: بغيناها طَرَبْ صارت نشَبْ!

* متخصص في الحوكمة، عضو معهد الحوكمة المعتمد في بريطانيا وأيرلندا