لم يكن الاندفاع الأخير لبعض العواصم الغربية للاعتراف بدولة فلسطين صحوة ضميرٍ مفاجئة، ولا إقراراً متأخراً بعدالة القضية الفلسطينية، بقدر ما هو انعكاس لضغوط تراكمت حتى كسرت جدار الصمت.

هذا التحوُّل لم يُولد في فراغ، بل جاء بعد سنوات من التواطؤ الضمني، وأشهر من صور لا يمكن دفنها في نشرات الأخبار، والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا الآن؟

Ad

ضغط الشارع وصورة الغرب المهتزة: منذ أن بدأ العدوان الإسرائيلي على غزة، اجتاحت الشوارع الأوروبية والأسترالية والأميركية موجات من البشر ترفع علم فلسطين، وتصرخ بوقف الحرب.

لم تعد القضية بالنسبة للرأي العام الغربي ملفاً خارجياً، بل أصبحت جُرحاً يومياً على شاشات الهواتف والتلفاز. مشاهد الأطفال الهزلى تحت الحصار، والمستشفيات المدمَّرة، وأرقام الشهداء التي تتضخم، هزَّت وجدان الناخبين، وأحرجت الحكومات التي طالما قدَّمت لإسرائيل شيكاً على بياض. ازدواجية المعايير بين غزة وأزمات أخرى، مثل أوكرانيا، مثلاً، أصبحت مادة ثابتة في خطاب المتظاهرين، وأداة ضغط مباشرة على صُنَّاع القرار.

الكُلفة السياسية والانتخابات: في باريس، ماكرون يعلن نيته الاعتراف بفلسطين في الأمم المتحدة، ليس حُباً في الحقوق، بقدر ما هو محاولة لتلطيف صورة فرنسا أمام ناخبيها.

وفي لندن، يُطرح الاعتراف كورقة مساومة مرتبطة بوقف الحرب. فيما أستراليا وكندا تمضيان على الخط نفسه، وسط انقسام سياسي حاد، بعض الساسة يصفون الخطوة بأنها «مكافأة للعنف»، وآخرون يرونها محاولة أخيرة لاستعادة ثقة شعبية آخذة في التآكل.

فجأة أصبح الاعتراف بفلسطين بنداً انتخابياً بامتياز، بعد أن كان لعقود بنداً مؤجلاً بلا سقف زمني.

مصالح جيوسياسية وإعادة تموضع: التحرُّك الغربي لا يمكن فصله عن حسابات النفوذ والصفقات، والانحياز المُطلق لإسرائيل بات عبئاً على علاقات الغرب مع العواصم العربية والإسلامية، ويقوِّض فرصه في ملفات الطاقة والتجارة والأمن، ومع تصاعد أصوات الانتقاد داخل أوروبا نفسها لسياسات نتنياهو، خصوصاً بعد خططه المُعلنة لغزو القطاع وتهجير سكانه، ليُصبح الاعتراف بدولة فلسطين خطوة «منخفضة الكلفة» لترميم صورة الغرب المتصدِّعة، ومحاولة لاستعادة موطئ قدم في توازنات إقليمية تتغيَّر بسرعة.

ضغط الشرعية الدولية: اليوم أكثر من 147 دولة، أي ما يفوق ثلاثة أرباع أعضاء الأمم المتحدة، تعترف بفلسطين. هذا الإجماع جعل رفض بعض العواصم الغربية يبدو كتمرُّدٍ معزول على المنطق الدولي، ومع كل بيان أممي يدعو لوقف الحرب، أصبح موقف الرافضين أكثر هشاشة وأقل قابلية للتبرير أمام شعوبهم وحلفائهم.

انتقادات من داخل إسرائيل... وتصريحات تكشف النوايا: المُفارقة أن التحوُّل الغربي تزامن مع تصريحات نارية من نتنياهو نفسه، فبعد أن وصف الاعترافات الغربية بأنها «إشاعات»، خرج قبل ثلاثة أيام ليعلن تمسُّكه برؤية «إسرائيل الكبرى»، مؤكداً أنه في «مهمة تاريخية وروحية» لتحقيق مشروعٍ توسعي يشمل الضفة وغزة، وربما أجزاء من دول عربية مجاورة.

هذا التصريح لم يكن مجرَّد جُملة إعلامية، بل إشارة سياسية واضحة إلى أن الحكومة الإسرائيلية الحالية لا ترى في السلام خياراً، بل في التوسع هدفاً.

لم تمرّ هذه التصريحات مرور الكرام، إذ واجهت إدانات عربية ودولية واسعة وُصفت بأنها «إنذار مبكر» لما قد يأتي في الداخل الإسرائيلي. كان يائير غولان رئيس حزب الديموقراطيين المعارض يحذِّر من أن حكومة نتنياهو «تريد فرض احتلال غزة على الإسرائيليين» بثمن باهظ من الدماء والمال، وبما سيدفع إسرائيل نحو عُزلة دولية خانقة.

بين التحوُّل والاختبار: الاعترافات الغربية الأخيرة تحمل قيمة رمزية لا يُستهان بها، لكنها تبقى حبراً على ورق، ما لم تتبعها خطوات لوقف العدوان وإنهاء الاحتلال.

السؤال الآن: هل هي بداية تحوُّل استراتيجي نحو سلامٍ حقيقي، أم مجرَّد ورقة ضغطٍ في لحظة سياسية حرجة؟

المؤكد أن العالم تأخر كثيراً، وكأن دماء عشرات الآلاف كانت الثمن المطلوب ليعامل الحق الفلسطيني كحقيقة، لا كخيار تفاوضي.

كلمة أخيرة

بينما كانت بعض العواصم تُعيد حساباتها تحت ضغط الشارع، كانت الكويت تُمارس سياستها الثابتة من دون انتظار مواسم التحوُّل السياسي منذ الأيام الأولى للعدوان، فأرسلت قوافل الإغاثة إلى غزة، ودعمت المستشفيات المدمَّرة، وقدَّمت نموذجاً للتضامن العملي الذي لا تحكمه المساومة.