استكمالاً لسلسلة المقالات التي اعتزمتُ أن أتناول فيها جانباً خفياً عن عموم الناس في إعجاز القرآن الكريم من حيث تناول مسائل بيئية علمية بدأناها في الأسبوع الماضي، أستمر في طرح الآيات من السور المكية، في بادئ الأمر، ثم المدنية بإذنه تعالى.

يقول المولى، عز وجل، في سورة الأعراف (الآية 56)، وهي بمُجملها سورة مكية: «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا». أتت كلمتا الفساد والمُفسدين في المصحف الشريف نحو خمسين مرة بمواضع ومعانٍ مختلفة. والإشارة هنا في سورة الأعراف واضحة وصريحة، وفق تفسير الإمام ابن كثير، بأن ارتباط الفساد في الأرض هو جرَّاء عمل البشر، والنهي هنا واضح وصريح، بعدم المساس بموازين البيئة بتاتاً، ولا القُرب من إتلاف عناصرها البتة.

Ad

الحكمة الإلهية والميثاق الغليظ الذي طلب من المؤمنين ينصبُّ حقيقة في الحفاظ على البيئة بشكلٍ واضح وصريح. أما النهي القرآني لمن يتدبَّر الآيات الكريمات في مواضع مختلفة، فيكون دائماً وأبداً في ربط صِفات الفساد، بكل أنواعه، بالانحلال الأخلاقي، وخوارم المروءة، وشرار الأمور.

وكذا أتت الآية رقم 77 من سورة القصص، وهي في معظمها مكية، على النحو التالي: «وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ». هنا نجد نهياً واضحاً وصريحاً عن الإفساد في الأرض. وتتمة الآية تُشير أيضاً إلى أن الله، جل في عُلاه، لا يُحب المُفسدين.

ووفق تفسير الإمام القرطبي، بعد الرجوع إليه ودراسة السياق الكامل للآية الكريمة في تناول جزء من قصة نبي الله موسى، عليه السلام، وذكر شخصية قارون، يحث الرب، جل في عُلاه، على أن يأخذ الإنسان نصيبه من الدنيا من دون إسرافٍ أو نهمٍ زائد.

وبعد ربط المعاني بعضها ببعض نكتشف المعنى الجميل الجلي ههنا في قول الله تعالى، وأمره بني آدم بأن يكون الإنسان مُتزناً وعاقلاً، ويأخذ من دون إسراف، وينهى بعد ذلك عن الإفساد في الأرض ودمارها، لأنه أمر يعود إليك بالهلاك وفساد البيئة المُحيطة بك.

تشكِّل تلك الآيات الكريمات، وفق وجهة نظري المتواضعة، سلسلة من التعليمات والإرشادات العامة للبشر في الحفاظ على البيئة. وإن كانت الموارد متوافرة ومتاحة، إلا أن الإسراف أمر منهي عنه بوضوح في كلام الله تعالى.

في سورة الأعراف كذلك، وفي موضعين آخرين، نجد النهي الإلهي عن الإفساد في الأرض. ورغم سياق الآيات والتفاسير المختلفة لها، فإن المنهج الإلهي واضح وجلي في النهي عن الإفساد في الأرض، بشتى الطُّرق والسُّبل، كقوله تعالى: «فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ»- (الأعراف 74). وفي قوله جل في علاه: «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)- (الأعراف 142).

تدبُّر القرآن الكريم من شخصٍ فنيٍ علمي مثلي يُعطي جانباً لعله غائب عن الكثيرين، خصوصاً في الحفاظ على البيئة ومواردها، وهو أمر في حد ذاته معجزة في زمانه وإلى زماننا هذا. والله كريم وهو المستعان.

على الهامش: يترك الظالم يعمه في غياهب الظلم وشرار الأمور، حتى تتراكم عليه دماء المظلومين، فيتشفَّى المظلوم من الظالم في الدنيا قبل الآخرة، وتعود الأمور إلى نِصابها، بما هي عليه، بدرسٍ أبدي يكون عِبرةً للناس.