يشير الباحث الأميركي فيليب سيب (Seib، 2012) إلى أن الصراع في القرن الحادي والعشرين لم يعد مجرد مواجهة عسكرية، بل أصبح «صراعاً على الرواية» (The Battle of Narratives).
ولعل أوضح مشهد يمكننا أن نراه هو مشهد الصراع الفلسطيني والصهيوني. الذي نجد فيه قناة الجزيرة تؤدي دوراً محورياً في تقديم سردية مضادة للرواية الإسرائيلية، عبر نقل الصورة الحية من قلب غزة، وتوثيق آثار القصف على المدنيين. هذا الدور جعلها في موقع «الناقل الرئيس للمعاناة الإنسانية»، وهو ما يُقلق صانع القرار الإسرائيلي.
وقد يتساءل البعض ما هي دوافع «الجزيرة» للإصرار على تغطية الأحداث رغم المخاطر الشديدة؟ نقول: هو تحقيق الغلبة في السبق الصحافي الذي يزيد من القيمة الاستراتيجية للتغطية، مما يبني المصداقية العالية لدى الناس، وبهذا تستطيع أن تحقق التأثير على الرأي العام العالمي، وهذا من أقوى الأسلحة الموجعة. وقد كتب فيليب سيب كتابا بعنوان «Al Jazeera Effect 2008»، يشرح فيه كيف يعيد الإعلام العالمي الجديد تشكيل السياسة الدولية، مع تركيز خاص على قناة الجزيرة كدراسة حالة.
لم تعد الحرب في غزة حرب مدافع وصواريخ فحسب، بل أصبحت في جوهرها حرباً على الروايات الباطلة، وصراعاً على الفكرة قبل أن تكون صراعاً على الأرض. صحيح أن غزّة قد خسرت الكثير، وهُدّمت مساجد وكنائس ومستشفيات، وانهارت البيوت فوق ساكنيها، ولكن يقيض الباري عز وجل مَن ينقل هذه المعاناة إلى العالم أجمع، فقد شيدت هذه المدينة المدمَّرة في المقابل أبراجاً عالية في قلوب أحرار العالم. فالعالم اليوم يرى ويسمع معاناة غزة التي تخرج من بين الركام لتكشف الحقيقة. ربما تفوقت آلة الحرب مؤقتاً، لكنها تركت خلفها جيلاً يعرف ماذا تعني هذه المدينة، ولماذا يجب أن يدافع عنها.
لقد تلقّى الإعلام الغربي الموالي لإسرائيل ضربة غير مسبوقة في سمعته، إذ انكشفت ازدواجيته وضعفت نزاهته أمام الرأي العام العالمي، بعدما أصبحت الصورة تصل مباشرة من غزة بلا وسطاء. وهنا برز دور الصحافيين والمراسلين الذين نذروا أنفسهم لنقل الحقيقة، فكانوا شهوداً على الجريمة، ودفع بعضهم حياته ثمناً لذلك. وهذه التضحيات ليست مجرد عمل وظيفي، بل بطولة حقيقية ورسالة يؤمنون بها، فقد اختاروا أن يقفوا إلى جانب الضحايا في زمن يُراد فيه للظلم أن يُخرس الجميع.
لقد ظنّت إسرائيل أن القتل سيقتصر على أهل غزة فقط، ولم تدرك أنها تقتل بذلك صورتها أمام العالم، وتخسر ما تبقى لها من تعاطف.
أعزائي القرّاء، إن الصراع اليوم هو صراع السرديات، أي صراع بين روايتين: رواية قوى الظلم التي تسعى لإخفاء الحقيقة، ورواية الضحية التي وجدت من ينقل معاناتها من قنوات حرة. ومع اتساع البث المباشر وانتشار الصور، تحوّل صوت غزة إلى صوت عالمي، لم يعد حكراً على شعب محاصر، بل صار له أنصار ومحبون من كل الأديان والجنسيات. وصار أحرار العالم يشعرون بأن ما يجري هناك يمس كرامتهم الإنسانية، ويرون في غزة عنواناً للحرية والعزّة.