أثار كتاب بعنوان «الدولة التي أصبحت غنية أكثر من اللازم»، صدر الشهر الماضي لمؤلفه المستشار الاقتصادي، مارتن بيك هولته، ضجّة كبيرة في الأوساط الاقتصادية العالمية، إذ ناقش مسألة نادرة البحث، غير مطروقة، تتعلق بعبء الازدهار أو بحث معادلة إمكانية استدامة الرفاهية بالتوازي مع الارتفاع المتواصل في معدلات الثراء بمملكة النرويج، التي تُعد لدى مجتمع الاقتصاد العالمي النموذج الأكثر كفاءة في الجمع بين استغلال الموارد الطبيعية والإدارة المالية الحصيفة.
وبلمحة خاطفة على كتاب هولته، الذي تحوّل الى مادة جدل ونقاش في الجامعات والمؤتمرات داخل النرويج وخارجها، بشأن جدية مخاوفه من تحوّر جديد للمرض الهولندي من خلال النموذج النرويجي، حيث تؤدي الثروة المفرطة الى خفض في الإنتاجية وتنافسية الاقتصاد وجودة الصناعات وإمكانات الابتكار.
وبالتالي هو لا يعبّر عن مخاوفه من ضياع الثروات النرويجية الضخمة، بل طريقة إدارتها التي قد تنتج اقتصادا كسولا ومجتمعا استهلاكيا ومؤسسات مشبعة بالمال، لكنها فاقدة للرؤية والديناميكية... وحديث هولته هنا عن النرويج لا عن الكويت!
بيانات وغفلة
وسبب اللمحة الخاطفة هي أننا لا نناقش كتاب الرجل من زاوية مخاوفه على اقتصاد النرويج، إحدى أكثر دول العالم تصدُّرا في مجالات الرفاهية والازدهار والنمو، مدفوعة ببيانات متقدمة في مجالات التنافسية الاقتصادية والابتكار والرعاية الاجتماعية والتعليم والصحة والبيئة والإدارة الرشيدة، وغيرها، فهذه استزادة في غير محلّها، ولا حتى في مجال المقارنة أو المقاربة بين اقتصادَي الكويت والنرويج، فالبون شاسع ليس في الثروات فقط، إنما في إدارتها واستدامتها والقدرة على تقويم مسارتها... بل هي مفارقة أقرب للتعجب أو السخرية بأن تناقش دولة كالنرويج، التي تتمتع بكل مقومات الاستدامة، مخاوفها بشأن المستقبل، بينما تغفل الكويت عن ذلك، وهي التي تضع مستقبل اقتصادها واستدامتها رهينة لسلّة تقلبات أسواق الطاقة وانفلات المصروفات وغياب الرؤية وضعف جودة الإدارة.
أجيال وثروات
وقياس مخاوف اقتصاد الكويت على نظيره في النرويج يتجاوز مجرد الحديث المعتاد عن حجم صندوقَي الثروة السيادية فيهما، البالغ في النرويج 1.8 تريليون دولار بنصيب فرد يناهز 340 ألف دولار لكل مواطن نرويجي، مقابل تريليون دولار مقدّرة بشكل غير رسمي لصندوق الثروة السيادية الكويتي، أي 666 ألف دولار كنصيب الفرد الكويتي، رغم أن صندوق النرويج أُسس عام 1996، بينما أسس صندوق الكويت عام 1952... بل يتجاوز مسألة تماثل ثروات البلدين الطبيعية والمالية الى مناقشة التناقض في كفاءة إدارة هذه الثروات والقدرة على تحويلها الى منافع وخدمات مستدامة.
والقياس بين الكويت والنرويج، حتى يكون مفيدا، يجب أن يؤخذ من زاوية الاختلالات الهيكلية للاقتصاد الكويتي، أي بدرجة الاعتماد على الموارد الطبيعية وآثارها على سوق العمل وحجم وتنوّع الناتج المحلي، وغيرها من المعايير، فالنرويج التي يشكّل قطاع النفط والغاز نسبة 21 بالمئة من ناتجها المحلي، لا تسمح باستقطاع أكثر من 4 بالمئة من إيرادات النفط لتمويل ميزانيتها لتحوّل البقية الى صندوق ثروتها السيادية، بينما يشكّل النفط الخام ما يعادل 41 من الناتج المحلي الإجمالي للكويت، وهي نسبة ترتفع مع حساب المنتجات البترولية ما بعد الاستخراج، وصولا الى حقيقة أن اقتصاد الكويت بمجمله ممول بالنفط بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال اعتماد القطاعات الاقتصادية الأخرى الحكومية والخاصة على إيرادات النفط، كما أن الكويت تموّل ميزانيتها سنويا بـ 90 بالمئة من إيرادات النفط، وامتنعت منذ 5 سنوات عن تحويل نسبة الـ 10 من إيرادات النفط الى صندوق احتياطي الأجيال القادمة.
مع الإشارة الى أن حجم اقتصاد النرويج حافظ على استمرار معدلاته منذ مطلع الألفية قبل 25 عاما، باستحواذه على ما يعادل ثلث اقتصاديات محيطه من الدول الإسكندنافية، فيما تراجع حجم اقتصاد الكويت، مقارنة بمحيطها، أي دول مجلس التعاون الخليجي خلال نفس الفترة من 18 إلى 7.7 بالمئة.
عمل وقطاعات
وعلى صعيد سوق العمل، نجد أن قطاعات الزراعة وصيد الأسماك والسياحة والخدمات والطاقة، وكلها غير حكومية، تتولى خلق فرص العمل وصناعة الوظائف في النرويج كواحدة من أدنى معدلات البطالة في أوروبا، إذ بلغت 4 بالمئة عام 2024، مما يعكس كفاءة السياسات الاقتصادية المعتمدة، بينما تشير البيانات الاقتصادية في الكويت الى أن العمالة الوطنية في الجهات الحكومية نحو 84 بالمئة من إجمالي قوة العمل الكويتية، وأن تكاليف الرواتب توازي 61 بالمئة من الإنفاق العام، مما يمثّل إخفاقا اقتصاديا ونزيفا ماليا، فضلا عمّا ينتجه هذا التكدس الوظيفي من آثار سلبية على الكفاءة والمرونة.
تعليم وفاقد
في التعليم، تنفق الكويت والنرويج مبالغ متقاربة ما بين 20 و25 ألف دولار كلفة سنوية على الطالب الواحد، وقد انتقد هولته في كتابه تراجع مستوى الطالب النرويجي في اختبارات «تيمز» بالرياضيات والعلوم والقراءة من الترتيب ما بين 10 الى 14 عالميا، بمعدل نقاط يتجاوز المتوسط العالمي، بينما تخفي الكويت نتائج ترتيبها العالمي الذي حصلت فيه خلال سنوات سابقة على الترتيب الأخير، وتكتفي فقط بعرض الدرجات، وهي أقل من المتوسط العالمي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن واحدة من أهم معضلات التعليم في الكويت، المتمثلة بما يُعرف بالفاقد التعليمي البالغ 5 سنوات، والتي تجعل طالب «الثانوية» في مستوى طالب «المتوسطة» بدول أخرى، هي مسألة بالتأكيد لم يناقشها المؤلف في كتابه مهما كان إفراطه في التشاؤم من مستقبل النرويج!
قائمة للكويت
وتطول القائمة في كتاب هولته التي تصلح أن تكون موجّهة الى الكويت لا النرويج، خصوصا عندما تحدّث عن الجدوى الاقتصادية لمشاريع البنية التحتية، أو القدرة على جذب الأموال الأجنبية والخبرات الخارجية أو الأغراض التي تستحق أن ينفق عليها أموال الديون السيادية، أو انخفاض نسبة الإنفاق على البحث والتطوير، أو محدودية عدد المشاريع الناشئة التي حصلت على تمويل أوّلي، أو المخاوف على أوضاع الأسر المتوسطة من تنامي الاقتراض وتدنّي فرص الادخار.
مرض كويتي
ولا شك في أن مناقشة هولته مخاوف ما يُعرف اقتصاديا بالمرض الهولندي على النرويج، الذي يشير الى حالة الأثر السلبي للثروات غير المستدامة على الاقتصاد من حيث انخفاض الإنتاج وتدنّي التنافسية، وتحوّل الرفاهية بشكل زائف الى ممارسات ريعية، واستنفاد جيل واحد للثروات على حساب الأجيال القادمة، هي مسألة مهمة، لكنها في المقابل تحتاج محليا إلى مناقشة أعمق لما يمكن وصفه بالمرض أو الداء الكويتي، الذي يتمثل في الاعتراف بالمرض، أي باختلالات الاقتصاد الهيكلية، بل ومعرفة علاجه أحيانا مع رفض الدواء بشكل مطلق، والاستعاضة عن ذلك كله بـ «إبر بنج» على ما يبدو بات مفعولها أقل تأثيرا مع تنامي مصاعب سوق النفط.
النرويج لا «ناورو»
إن قياس اقتصاد الكويت على نظيره النرويجي، حتى مع الفوارق الشاسعة في الكفاءة والإدارة والاستدامة، أفضل من أن نصل يوما الى المقارنة مع جزيرة ناورو في المحيط الهادي، التي كانت حتى سبعينيات القرن الماضي من أغنى دول العالم بفضل الثروة المفاجئة مع اكتشاف مناجم الفوسفات، وعندما نضب هذا المعدن سرعان ما انهار اقتصادها، لتتحول الى محطة لغسل الأموال والتهرب الضريبي.
وهنا يجب التنبه الى أن وضع الكويت مهما بلغ من التفاؤل لا التشاؤم، فلن يبلغ حد التطابق مع النرويج أو ناورو، لكن بالتأكيد علينا أن نعمل على أن نصبح أقرب ما نكون إلى النرويج، وأبعد عن ناورو.