حين أسترجع ذاكرتي إلى ستينيات القرن الماضي، أشعر كأنني أنظر إلى لوحة مضيئة، رُسمت فيها ملامح وطنٍ خرج لتوّه من رحم الاستعمار، يحمل بين جوانحه توقاً إلى البناء، وشغفاً بالعلم، واعتزازاً بانتمائه العربي. كان شعار «الكويت - بلاد العرب» مكتوباً على جميع الأوراق الرسمية. كان الاستقلال محطة ولادة جديدة، والسبعينيات مرحلة تحول، حين كان بريق «عروس الخليج» يشع ألقاً في المنطقة، أما الثمانينيات فكانت ذروة الازدهار الاقتصادي والتقدم الفكري والعلمي، وكان الإنسان الكويتي آنذاك صاحب هوية واضحة، وقيم راسخة، ومكانة مرموقة في محيطه العربي والإسلامي.

لكن، ومن فداحة الغزو العراقي الغاشم، فإن ما تلا التحرير من تحولات اجتماعية وسلوكية يستحق وقفة تأمل ناقدة، بعين لا تخشى الحقيقة، ولو كانت مرّة. فالغزو لم يكن مجرد احتلال عسكري، بل شكّل شرخاً في البنية الأخلاقية والإدارية للمجتمع الكويتي، ما زلنا نعاني آثاره حتى اليوم. وقد تزامن ذلك مع انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء مرحلة الثنائية القطبية، ودخول العالم حقبة القطب الواحد بزعامة أميركا، وهيمنة الغرب ليس على الكويت فحسب، بل على العالم أجمع، وبدأت أميركا بالالتفاف على الصحوة الإسلامية بعد أن جيرتها بدهاء لضرب الاتحاد السوفياتي في أفغانستان وانهياره.

Ad

وهناك رمزية لا تخفى على كبار السن، فقد كانت الدشداشة والغترة هي اللباس الطبيعي للشباب الكويتيين إلى يوم الغزو، لكن سرعان ما حل محلها الكاب والتريننغ سوت، وبدأت مرحلة أفول الصحوة الإسلامية، التي كانت قد بلغت ذروتها في الثمانينيات.

نشأ جيل ما بعد الغزو في بيئة اتكالية، اعتادت الاعتماد على الدولة في كل شيء: من التوظيف إلى الإنفاق، ومن التعليم إلى الرعاية الصحية، دون وعي حقيقي بقيمة المال العام أو ثقافة الإنتاج. أصبحت مظاهر البذخ والاستهلاك، والتفاخر بالمظاهر والماركات والشكليات، سمة بارزة حتى بين ذوي الدخول المحدودة. صار السلوك الاستهلاكي نمط حياة، يُمارس باعتباره حقّاً مكتسباً، لا يخضع لتوازن أو تقدير، بغضّ النظر عن الإمكانات أو الأولويات.

وفي موازاة هذا التحول، ترسّخت قيم سلبية في المؤسسات العامة، تقوم على التمسك بالمزايا الوظيفية بدلاً من تحقيق الإنجاز. أصبحنا نرى من يطالب ببدلات وامتيازات تفوق الحد المعقول، أو تُمنح دون وجه حق، فقط لأن الجهة التي يعمل بها تُصنّف على أنها «متميزة» أو «شبه مستقلة»، رغم أن طبيعة العمل لا تختلف كثيراً، وربما تكون أقل إنتاجاً مما يُقدَّم في جهات حكومية أخرى.

وتجلّى ضعف الالتزام بالقانون في سلوك الموظفين، من توقيع الحضور والانصراف دون التزام فعلي بساعات العمل، إلى غياب الإنجاز، وتراجع الإنتاجية، بل وتحوُّل بعض الإدارات إلى بؤر للمحاباة وتبادل المصالح. أصبحت المخالفات الإدارية مقبولة عرفاً، بل يُنظر إلى من يتمسك بالقانون على أنه متشدد أو «غير متعاون».

هذا الواقع لم ينشأ من فراغ، بل ساهمت في ترسيخه السياسات الحكومية المترددة، التي فضّلت التوازنات السياسية والترضيات النيابية على حساب الكفاءة والعدالة. وبدل أن تكون الحكومة نموذجاً في الالتزام بالقانون، أصبحت أول من يتجاوزه، سواء في التعيينات أو الترقيات أو الاستثناءات التي تُقوِّض مبدأ المساواة وتُكرّس الإحباط الجماعي.

ورغم كل هذا، بدأت اليوم تظهر إشارات واضحة إلى ضرورة إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الموظف والوظيفة، وبين الفرد والمجتمع. وبدأنا نسمع دعوات إلى مراجعة بعض البدلات والامتيازات التي لا تستند إلى مبررات وظيفية أو اقتصادية، مع عودة النقاش الجاد حول أهمية «الإنجاز» لا «التواجد الشكلي».

إن «البصمة» أصبحت الحد الأدنى لضبط الحضور، لكنها لا يجب أن تكون الغاية، بل بداية لمسار مهني جديد. المطلوب اليوم أن ننتقل من مرحلة إثبات الحضور إلى العمل بمؤشرات الأداء، وإثبات الإنجاز، ومن التمسك بالحقوق إلى تبنّي التزامات مهنية حقيقية، ترفع من كفاءة المؤسسة وتعزز ثقة المجتمع بها.

ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى فرض ثقافة مؤشرات الأداء في مجمل العمل الحكومي. وكما أن الدولة مطالبة بأن تكون صارمة في فرض القانون، جريئة في مراجعة الامتيازات غير المبررة، فهي أيضاً مطالبة بأن تكون عادلة في التقييم، ومنصفة في توزيع الفرص.

إن إصلاح المجتمع يبدأ من سلوك الدولة. فإذا طبقت الحكومة القانون على موظفيها في محاسبتهم فإن الناس سيتبعونها طواعية. وإذا رفعت قيمة الإنجاز فوق كل اعتبار فإن مؤسساتها ستنهض، وسينشأ جيل جديد يعرف الفرق بين الحق المكتسب والمصلحة العامة.

ولأن إصلاح العلاقة بين الدولة ومواطنيها في العهد الجديد أمر محوري، فإننا بحاجة إلى رؤية إصلاحية هادئة وعادلة، تراعي الأوضاع الاجتماعية والتزامات الناس، وتوازن بين حقوق الأفراد ومصلحة الدولة. فالمراجعات المالية، إن جاءت مفاجئة، قد تُربك الأسر وتضعف ثقة المجتمع بالمؤسسات. ولذلك، فإن أي مراجعة جادة ينبغي أن تنطلق من تصور شامل، يقوم على مبادئ العدالة والكفاءة، ويؤسس لتوزيع عقلاني للموارد.

الإصلاح في العهد الجديد، الذي نراه ضرورة وطنية، يجب أن يتجسد في رؤية متكاملة تراعي العدالة بين الجيلين، القديم والجديد، وتعالج في الوقت ذاته تشوهات الرواتب والمزايا، من خلال أدوات مؤسسية مدروسة. فالكويت لا تفتقر إلى الموارد، ولا إلى العقول، بل إلى شجاعة التخطيط العادل، والالتزام الجاد.

والإصلاح المنشود، لكي ينجح، لا بد أن يكون مبنياً على التدرج والعدل، ليحظى بثقة المواطنين، ويحفّزهم على المشاركة الفاعلة فيه، إيماناً منهم بأنهم شركاء لا متفرجون، وصنّاع لا متلقّون، في حماية الوطن وصياغة مستقبل أجياله.

* وزير الصحة الأسبق