حين يتفوق الذكاء الاصطناعي: هل سنخسر كل شيء؟ منذ أن بدأ الإنسان يسجّل تاريخه، كانت المعرفة هي المعيار الأهم الذي تُقاس به قيمة الفرد. لم تكن مجرد وسيلة للبقاء، بل كانت أساساً للمكانة الاجتماعية، وسلماً لصعود السلم الأكاديمي والمهني. أن تُوصف بـ «العالِم»، أو أن تحمل شهادة عليا، أو تُتقن التحليل والمنطق، كان كافياً لفتح أبواب الفرص لك: وظيفة مرموقة، احترام اجتماعي، تأثير فكري. لهذا السبب، شُيّدت المدارس والجامعات كمصانع لإنتاج المعرفة. نمضي فيها أعواماً طويلة من أعمارنا، لنخرج بشهادة تُثبت أننا نعرف. هكذا عشنا، وهكذا تقيم المجتمعات أفرادها. حتى جاء الذكاء الاصطناعي والذي جعلنا نعيش حالياً لحظة تحوّل قد لا ندركها أو ندرك حجمها، وتتم فيها إعادة تشكيل جوهر القيمة البشرية. فالمعرفة التي كانت تُمثل نُخبة الامتياز، أصبحت فجأة مجانيّة متاحة للجميع. تطبيق بسيط قد يصيغ لك مذكرة قانونية، أو يُفسر نتائج فحوصات طبية، أو يعلّمك الفيزياء واللغات والبرمجة دون الحاجة إلى مدرس. المعرفة لم تعد حكراً على أحد، بل سلعة متاحة للجميع بضغطة زر. في هذا الواقع الجديد، قد تصبح المهارة هي المعيار البديل. لم يعد يكفي أن تعرف، بل يجب أن تتقن شيئاً لا يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يقوم به. المهن التي لا تزال تحتفظ بقيمتها هي تلك التي تعتمد على اللمسة البشرية: الجراح، الطيار، النجار، طبيب الأسنان، الطباخ، البنّاء. كلها تتطلب حساً وإدراكاً ومهارة حركية معقّدة يصعب برمجتها، على الأقل في الوقت الحالي. لكن حتى هذه «الطمأنينة المهارية» قد لا تستمر طويلاً. فالذكاء الاصطناعي يُدمَج يوماً بعد يوم مع تقنيات الروبوتات المتقدمة. فحين تصبح الأذرع الآلية أدق من يد الجراح، وأثبت من يد الحرفي، وأسرع من الطباخ. هل تبقى المهارة ميزة بشرية؟ وهل نحن فعلاً بعيدون عن هذا السيناريو؟ لا أظن. وهنا يمكن التساؤل الذي أنشده في هذا المقال: ماذا عن البشر في تلك الحقبة؟ هل سيكون لنا مكان في عالم تُنتَج فيه المعرفة وتُنفّذ فيه المهارات آليًا؟ وإذا وُجد هذا المكان، فبأي مقياس ستُقاس قيمتنا؟ هل ستعود القيمة إلى الأخلاق؟ إلى الخيال؟ إلى المشاعر؟ أم ستُعاد صياغة المفهوم بأكمله؟ لا أعلم شكل هذا المستقبل، ولا أظن أحداً منا يملك الإجابة الشافية. لكن بسؤال الذكاء الاصطناعي أجاب: «أعتقد أننا في بداية أكبر مراجعة إنسانية لمفهوم القيمة منذ الثورة الصناعية. فإذا كانت المعرفة قد فقدت تفردها، وتوشك المهارة أن تفقد انفرادها، فإن ما يتبقى لنا كبشر - وقد يكون ما يميزنا حقاً هو الوعي والحس»، أعتقد بأننا مقبلون على تحوّل كبير، وكما قال داروين «ليس الأقوى هو من يبقى، ولا الأكثر ذكاءً، بل الأكثر قدرة على التكيف مع التغيير».
Ad