منذ عودته إلى السلطة نهاية ديسمبر عام 2022، بدا بنيامين نتنياهو أكثر جرأة في الإعلان عن مشروعه السياسي الإقليمي، مُجاهراً، بل ومتباهياً، بأن الشرق الأوسط الجديد هو شرق أوسط «إسرائيلي القيادة»، يتجاوز القضية الفلسطينية، ويعيد ترتيب الإقليم على أسس مصلحية بحتة، قاعدتها الأمن والطاقة والتطبيع. وبينما تنشغل شعوب المنطقة بتضميد جراحها اليومية، يبدو أن معادلات ما بعد 7 أكتوبر 2023، والحرب المستعرة في غزة، والعجز الصارخ عن أي محاسبة قانونية أو إنسانية لتجاوزات إسرائيل وخروقاتها للقانون الدولي، قد فتحت فعلاً نافذة لتنفيذ هذا المخطط القديم - الجديد الذي يتبناه رئيس وزراء العدو منذ عقود. لطالما رفع نتنياهو شعار «إسرائيل أولاً»، لكنه اليوم يوسّع من مدلول هذا الشعار ليجعله سياسة خارجية علنية، قوامها تحصين الأمن القومي الإسرائيلي بعمق إقليمي؛ فالحرب على غزة، رغم كلفتها المادية والإنسانية الهائلة، شكّلت اختباراً عملياً لنظرية الردع القصوى التي يتبناها نتنياهو، ويرى فيها فرصة لإعادة صياغة الواقع الفلسطيني برمّته، عبر إضعاف البنية العسكرية لحركة حماس، وإنهاء أي تهديد جدّي، وإعادة احتلال غزة أو دفعها نحو إدارة أمنية إقليمية بعيدة عن النفوذ الإيراني.

في الموازاة، لم تكن الضربات الجوية التي أصابت المنشآت النووية والصواريخ البالستية في عمق إيران، والانفجارات في أصفهان ومواقع الحرس الثوري، واغتيال نخبة القادة والعلماء، سوى رسائل نارية مفادها أن الكيان الصهيوني قادر على إدارة حرب أمنية استخباراتية بعيدة المدى، دون أن ينزلق إلى مواجهة مفتوحة.

Ad

لقد بات حلّ الدولتين، والقضية الفلسطينية، فعلياً في أدنى سلّم الأولويات؛ فالانقسام الفلسطيني المتجذر بين غزة والضفة، إضافة إلى تراجع شرعية السلطة، وفشل المحاولات لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، كلها عناصر تخدم التصور «النتنياهوي» لشرق أوسط لا مكان فيه لدولة فلسطينية كاملة السيادة. بل يمكن القول إن مشروع «الجدار الإبراهيمي» يستند إلى فكرة تتجاوز الفلسطينيين وتحيّدهم. أما لبنان وسورية، فهما يُدرجان في عقل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ضمن مناطق «الردع الوقائي». «حزب الله» يشكل الهاجس الأكبر، ولبنان يُراد له أن يبقى في حالة استنزاف اقتصادي وأمني دائم، دون الحاجة إلى حرب شاملة. أما في سورية، فإن إسرائيل حسمت أمرها منذ سنوات، بممارسة سياسة «الضربات المتقطعة» ضد الأهداف الإيرانية الداعمة للنظام البائد، مستفيدة من ضوء أخضر روسي ضمني. وها هي الآن دمشق ملهية بلملمة تفككها الداخلي ومحكومة من نظام جديد تبنى علنياً نهج الواقعية السياسية بتصريحه أنه في الوقت الحالي غير معني بمجابهة العدوان الإسرائيلي أو الدخول في حرب معه معروفة النتائج سلفاً.

من ناحية أخرى، تعتبر صفقات الغاز مع أوروبا، والتعاون مع قبرص واليونان، وترسيخ اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع لبنان بوساطة أميركية، خطوات تصب في «رؤية الغاز الكبرى» لإسرائيل كفاعل طاقي إقليمي. هذا التحول لا يخص الاقتصاد فقط، بل يشكّل أداة استراتيجية للربط بين الطاقة والأمن، بحيث يصبح كل طرف يعتمد على الغاز الإسرائيلي، معنياً - ولو بشكل غير مباشر- بالحفاظ على استقرار المنطقة ضمن ترتيبات إقليمية معقّدة.

*****

قد لا يكون «النتن ياهو» وحده من يصوغ هذا «الشرق الأوسط الجديد»، لكن المؤكد أنه يسعى لقيادته وتوجيهه على هواه، مستنداً في ذلك إلى شبكة من التحالفات، وسلسلة من الفراغات والدعم الغربي اللامحدود، ولكن يبقى التساؤل مطروحاً: إلى أي مدى يمكن لمعادلة قائمة على القوّة والظلم أن تصمد؟ وهل يمكن لأي اتفاقات غير متوازنة أن يكتب لها الاستمرار؟ وهل صار محسوماً أن المصلحة والعجز هما شريكان في صياغة الخرائط أكثر من كلمة الحق والموقف الصلب؟

* كاتب ومستشار قانوني