«يخونك ذو القربى مراراً وربما...
وَفي لك عند الجهل من لا تقاربه»
بشار بن برد
تتكرَّر العملية، وفي كُل مرَّة نستيقظ على مَنْ يقول: «من أين جاء كُل هذا الحقد، أو الطائفية أو المناطقية أو العشائرية، ونحن كُنا نعيش في أمان؟!». وكأنها وليدة اللحظة، وكأننا اكتشفناها الآن، وكأنها لم تعشش في تفاصيل حياتنا حتى أصبحت جزءاً منها، ومن العبارات والأوصاف التي نستخدمها باستسهال، لا يختلف في ذلك المتعلِّم حامل الشهادات، حتى العُليا منها، عن الأمي.
ونستمر في الاستغراب، وطرح الأسئلة المتأخرة أحياناً، أو التي يبدو أنها قد تحوَّلت إلى جزءٍ من تركيبة بُنيت على مر سنين، إن لم تكن عقوداً.
فالعصبية التي تتوارى خلف تعابير، مثل: «الطائفة الكريمة الأخرى»، أو «الإخوة من الطائفة...»، أو كُل تعبير يغلَّف بتوصيفٍ محبَّب، وكأنه من دون إدراك أو وعي يحاول إخفاء ما بداخله/ بداخلها أو بداخلهم.
طبقات في النَّفْس تتراكم، وهي ليست بالأمر الجديد الذي يجعلنا عندما استيقظنا ومازلنا على وجع السويداء وكل سورية نردِّد: ما الذي حدث؟ كيف يتقاتل الإخوة؟ بل كيف يقوم الأخ في الوطن ربما، بإهانة وتعذيب وقتل أخيه في نفس الوطن أيضاً؟ ونبقى عند عجزنا نردِّد: إنها المؤامرة، أو ربما الاستعمار، أو آخرون يُكثرون من حفر الشر في أوطاننا لإعادة تقسيمها رغم تفتتها المستمر!
ربما من المفيد ألا ننسى ما قاله مفكرون عرب قُدماء، وهم مَنْ أدركوا قبلنا بعصور، وعملوا على تفسير هذه التحوُّلات والنفسيات الخطيرة. ألم يفسِّر ابن خلدون في مقدمته نظرية العصبية، معتبراً أن الجماعة التي تفتقد عصبتها الجامعة سُرعان ما تتفكَّك وتتحوَّل تلك العصبية إلى صراعات وولاءات داخلية ضيِّقة. والعصبية عنده بعيدة جداً عن التعصُّب الذي نعرفه نحن اليوم، بسلبياتها وانغماسها في تكفير الآخر وإحلال دمه. وعندها تسود الولاءات الدينية والطائفية والمناطقية، فتتآكل الدولة، وينحر الوطن على مذبحة الواقع المؤلم.
ولم يكن ابن خلدون وحده، بل نبَّه الغزالي في كُتبه إلى استخدام الدِّين كأداة للفتنة، حيث ينتشر الظلم باسم الطاعة، وتكفر المعارضة باسم حماية الشريعة، ويترسخ الانقسام المغلف بابتسامات تبدو حضارية أو متحضِّرة، فيما هي تخبِّئ الكثير من الحقد على الآخر، ما يلبث أن يعبِّر عن نفسه، بشكلٍ أو بآخر، حتى تأتي الشرارة، فتُشعل السهل كُله!
فما جرى ويجري في كثيرٍ من بلداننا العربية منذ عقود، لكن بشكلٍ بارز منذ أكثر من عقدين أو أكثر يجب ألا يكون مفاجأة، وكأننا استفقنا على مَنْ كان أخاً أو جاراً حتى ليلة البارحة، وفجأة، وفي صباحية ساخنة حمل السلاح في وجه أخيه أو جاره.
فالنزاعات والحروب الأهلية ليست قدراً، بل هي نتاج لخيارات امتدت على مر عصور، وبالإمكان توصيفها باختصار شديد، بانعدام العدل، وتسطيح الهوية، وإقصاء الآخر، وتسييس المقدَّس، وكبت الحُريات، وانعدام التنمية، أو انحيازها لمناطق من دون أخرى، وكبت الغضب، حتى يتحوَّل إلى انفجار مدوٍّ. فهذه كُلها تبقى جمراً تحت الرماد، المُغلف بنفس تلك العبارات التي تردَّد: «التعايش»، و«الأخوة» وووو...
منذ أن وضعت خرائط سايكس– بيكو حدوداً استعمارية لتجزئة بلاد المشرق والمغرب، باتت الجغرافيا العربية خاضعة لقسر هوياتي لا يعبِّر عن حقيقة التنوُّع الثقافي والديني والاجتماعي فيها. هذا القسر، الذي تأسست عليه الدولة القطْرية، جعل من الانتماء الوطني فكرة مشوشة، ترتكز على تصوُّرات نخبوية تفرض نفسها على الجماهير من دون إجماع أو تداول. ومن هنا بدأت عملية التراكم: قهر ثقافي، ومؤسسات إعلامية ودينية تتواطأ في تثبيت صورٍ نمطية عن «الآخر»، حتى لو كان هذا الآخر جاراً، أو زميلاً، أو شريكاً في الأرض واللغة. وملايين من البشر بمنطقتنا يعيشون في مدن من الصفيح، أو حتى ما تتكرَّم به حكوماتهم من مدن مصطنعة دون تعليم حقيقي أو صحة أو حياة لائقة، فيما أقلية تحصد خيرات وثمرات هذه الأرض وما تحتها!
علينا أن ننظر إلى ما يحصل ليس فقط في السويداء العزيزة على قلوبنا، بل في كُل سورية الغالية على أنه جزء من كُل هذا مع كثيرٍ من الأصابع الخارجية التي تعمل بجهدٍ كبير على رسم خريطة جديدة للمنطقة، ونحن في ذلك لا نفضح سراً، بل هي تصريحات الصهاينة وحلفائهم وكثير من «الإخوة» لنا أيضاً، فكُلها تشير إلى كثيرٍ من المفاجأة التي يُستخدم فيها كُل هذا التراكم من العصبيات بشكلٍ ممنهج، فيرخص الدم، وتُفكَّك المجتمعات على صِغرها وتبعثرها. متى نستيقظ؟ وبل متى نتعلَّم؟
* يُنَشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية