قبل أربع سنوات تقريباً قررنا أنا والعائلة أن نزور أصدقاءً لنا في القاهرة. لم تكن الزيارة للأصدقاء فحسب، بل كنا نزور أم المدن، وذاكرة العرب الجماعية. نزور الآثار والمباني والحارات، ونزور الحكايات التي تربينا عليها في المسلسلات، ونزور النهر الخالد، لنتناول الطعام على ضفافه، ونتأمل كيف أحاط العمران والبنيان بجوانبه. ونزور الظرافة والفكاهة، ونزور أهلها الطيبين، الذين لا يُشبهون أحداً، فهم يمزحون ويضحكون وكأنهم اخترعوا الضحك.

كنا على موعد عشاء بأحد المطاعم المرموقة المطلّة على النيل، مع أسرة كريمة من أهل البلد. أخذت سيارة الأجرة من أمام الفندق، كانت الأجرة 130 جنيهاً من الفندق إلى المطعم، أعطيته 200 وكنت أنتظر منه بقية المبلغ، فاعتذر مني قائلاً «ما عنديش فَكّه» وبصراحة، كنت منزعجاً من سيارته الضيقة ذات الجلد الأسود المتشبعة برائحة السجائر، والمليئة بإضاءات ملونة تشبه «الديسكو»، فكنت أنا من يريد «الفكّه» بالكويتي، فقلت له: «خلاص»... ولكني كنت أتساءل كيف سيقنع الأجانب و«الأمريكان» بموضوع «الفكّه» وكيف سيقولها لهم؟

Ad

وصلنا بالموعد، وسعدنا بلقاء الأصدقاء ومجالستهم، وتحدثنا عن كل ما يخطر في بالنا وما جرى لنا، حتى موضوع «الفكّه»... واستغلال التكاسي للسياح، وكأن السائح جاء ليتخلّص من ماله كله!

قال لي أحد الأصدقاء: دعك من «التاكسيات»، واستعمل «أوبر»، فهم تحت رقابة نظام عالمي، كل شيء فيه محسوب ومنظم. وأقترح عليك أيضاً أن تزور التجمع الخامس ومدينة الشيخ زايد، فإنك سترى مصر بلوحة فنية جديدة.

وبعد أن فرغنا من العشاء طلبت «أوبر» للعودة إلى الفندق، فجاءني شاب محترم بسيارة نظيفة، وأعادني بنفس المسافة من المطعم إلى الفندق بتسعة جنيهات فقط!

وصارت التنقلات بعدها أكثر يُسراً، لا جدال في الأجرة، ولا توتر في الطريق، ولا سوء ظن...

ذهبنا لزيارة المدن الجديدة وسررت من جمالها ورقيّها، ورأيت شوارع تتسع للعين والنفس، وزهواً في البنيان، وسكينةً لا تعرفها الميادين القديمة، ومقاهي فيها من الأناقة ما يُحاكي أوروبا، بروح مصرية خفيفة لا تترك المكان خالياً من العبارة الظريفة والوجوه البشوشة.

غير أننا في يوم من الأيام، ركبنا مع سائق «أوبر» واختلفنا معه على مكان الانتظار، ثم أظهر السائق شيئاً من التوتر والاستياء والضجر تجاهنا.

فحذرته بطريقة مازحة، أنني سأكتب في ملاحظات «أوبر» أنك لم تكن لطيفاً مع الزبائن. ولم أزد على ذلك في القول. فتبدّل مزاجه العكر 180 درجة إلى مزاج مبتهج، وأصبح يستحضر كل ما هو لطيف ومؤنس، حتى تأكد المسكين أننا رضينا وانبسطنا!

فقلت في نفسي: يا لهذا النظام «الساحر»... إنه نظام يضبط السلوك، ويصون اللسان، ويهذّب الأخلاق، لا بالعقاب الفوري، ولا بالتهديد المباشر، ولكن بالخوف من فقد السمعة وضياع الرزق!