بدأت البنوك الرقمية، في السنوات الأخيرة، تأخذ مكاناً بارزاً في المشهد العالمي، لتُصبح إحدى التجارب البارزة في القطاع المالي. وقد ساهم في هذا التقدُّم خطوة تنظيمية مهمة تمثلت في إصدار بنك الكويت المركزي للتعليمات الرقابية الخاصة بالبنوك الرقمية، مما أعطى شرعية قانونية ورقابية لهذا النموذج الحديث، وفتح الباب أمام انطلاقة جديدة تواكب التحوُّل الرقمي الحكومي، وتخدم جيلاً جديداً من العملاء يسعى إلى خدمات مصرفية فورية وسهلة.
من أبرز سمات هذه التجربة، أنها تُتيح للعملاء إمكانية فتح الحسابات، وإجراء التحويلات والاستعلامات، في وقت قياسي، من خلال تطبيقات الهاتف الذكي، من دون الحاجة إلى زيارة مقر البنك، وهو ما يمثل قفزة حقيقية في تقليل كلفة الوقت والجهد، إضافة إلى غياب البنية المادية لهذه البنوك، مما يقلل من الكلفة التشغيلية، ويمنحها ميزة تنافسية في تقديم خدمات برسوم أقل، مقارنة بالبنوك التقليدية.
من ناحية أخرى، تُسهم هذه البنوك بشكلٍ واضح في تعزيز الشمول المالي، من خلال استهداف فئات ظلَّت على هامش المنظومة التقليدية، مثل الشباب وبعض العملاء الذين يصعب عليهم فتح حسابات بنكية، بسبب عدة ضوابط ومتطلبات معقدة. وهي بذلك تتماشى مع طموحات «رؤية كويت جديدة 2035»، التي تسعى إلى تعزيز البنية الرقمية في مختلف مجالات الحياة.
أما على صعيد الأمان، فقد اعتمدت هذه البنوك على بروتوكولات تشفير متطورة وتقنيات مصادقة متعددة تفوق في بعض الأحيان ما هو متبع في المؤسسات التقليدية، مما يعزز ثقة العملاء بها، الأمر الذي زاد من منافستها الإيجابية مع البنوك القائمة، ودفع القائمين عليها إلى تحديث بنيتها التكنولوجية وخدماتها الرقمية، بما يعود بالفائدة على السوق ككل، مع حرصٍ دائم على تطوير ومواكبة أحدث أساليب التصدِّي للمخاطر السيبرانية المتزايدة.
ورغم هذا التقدُّم وتلك المزايا، لا تخلو تجربة البنوك الرقمية في الكويت من تحديات وصعوبات، سواء على الصعيد القانوني أو التشغيلي. فإضافة إلى ضعف الوعي الرقمي لدى شريحة كبيرة من العملاء، لايزال الإطار القانوني الناظم لهذه التجربة البنكية يرتكز إلى قانون النقد والبنك المركزي رقم 32 لسنة 1968، وهو قانون لا يعكس خصوصية البنوك الرقمية، رغم تحديث بعض التعليمات الخارجة من رحمه.
من جانب آخر، لا تزال المنظومة التشريعية في الكويت تعاني قصوراً في مواكبة عدد من التقنيات المالية الحديثة، مثل: العقود الذكية، والحوسبة السحابية، والخوارزميات الذكية، والتي تُعد من الركائز الأساسية في البنية الرقمية للقطاع المالي المعاصر، وهو ما يُعد أحد العوامل التي قد تحدُّ من القدرة على توسيع هذه التجربة.
ويُضاف إلى ذلك أن البنوك الرقمية، وفقاً للوضع القائم، مُنعت فعلياً من تقديم خدمات ائتمانية مثل القروض، الأمر الذي جعل نشاطها محصوراً في خدمات رقمية محدودة لا تخرج في جوهرها عن تلك المتوافرة بالفعل في التطبيقات الإلكترونية التابعة للبنوك التقليدية، وهو ما يُضعف من قدرة هذه المؤسسات الجديدة على تقديم نماذج ابتكار مالي حقيقية، على غرار ما هو معمول به في عددٍ من الدول المتقدمة، حيث تُمنح البنوك الرقمية تراخيص مرنة تتيح لها اعتماد حلول مصرفية متطورة ومبتكرة، تُسهم في تعزيز الشمول المالي، وتسريع التحوُّل الرقمي في القطاع المصرفي.
من الناحية العملية، لاتزال بعض الجهات تطلب إثبات حساب من فرعٍ فعلي، كما تتحفظ بعض الجهات الرقابية عن مخاطر مستجدة، مثل غسل الأموال أو التهرب الضريبي باستخدام الحسابات الرقمية، مما يصعِّب اعتماد البنوك الرقمية في الإجراءات الرسمية، ويعقد أيضاً مسألة التبليغ والتنفيذ القضائي في حال النزاع.
****
يبدو أن البنوك الرقمية في الكويت قد قطعت شوطاً مهماً على مستوى التنظيم والبنية التحتية التقنية، لكنها لاتزال بحاجة إلى بيئة تشريعية متخصصة، ودعم رسمي وعملي أوسع، حتى تحقق كامل إمكاناتها، وتنتقل من نموذج تجريبي إلى ركيزة حقيقية في الاقتصاد الرقمي الكويتي.