في قاعةٍ تحمل جُدرانها حكايات من تاريخٍ عريق، التقت تلك المجموعة الصغيرة التي دُعيت للبحث المعمَّق في واقع حال العالم الآن، خصوصاً منه عالمنا، الذي كُنا نُسمِّيه بسهولة شديدة «العالم العربي»، بل أمة عربية، وأحياناً تُضاف لها في ذيلها «واحدة»، حتى جاء الطوفان، أي طوفان الأقصى، فنثر الأسئلة، بل غاص في عُمق التسمية، رغم أن كثيرين منِّا يرفضون حتى الوقوف عند خاصرة السؤال: «أي عالم عربي، بل أي أمة؟».
المجموعة تبدو متناسقة جداً، لكونها تلتقي منذ سنين ليومين من كل عام في إحدى المدن التاريخية بمكان يُنتقى بعناية، ليكون له هو الآخر قصص وتاريخ.
في صباح اليوم الأول التفت البعض على الوجوه الجديدة، بعضهم لم يكن مُتحمِّساً للدخلاء الجُدد، وآخرون لم يكترثوا لهم أو لهن. كان الاهتمام الأكبر لتاريخ المكان، وإطلالته على البوسفور السَّاحر، فكيف لك أن تُناقش الحروب المُشتعلة والتحوُّلات العالمية والشرق الأوسط الجديد وأنت تحتسي الشاي المعتَّق والسُّفن تمرُّ باسترخاءٍ شديد من خلف النوافذ الواسعة.
المكان يبعث على الاسترخاء والهدوء، بدلاً من طرح الأسئلة الصعبة، أو هكذا تصوَّرت هي إحدى الدخيلات الجديدات على هذه المجموعة، التي يبدو أنها وضعت أو اتفقت على أُسس للقاء والنقاشات، حتى لو لم تكن تلك مكتوبة أو واضحة.
بدأ اللقاء من دون مقدِّمات وخطابات ممجوجة، كما اعتدنا، ومن دون ميكروفونات، ولا تبجيل بالمتحدثين، فيما يبعث على الراحة بعض الشيء، خصوصاً أن البعض أدمن اللقاءات التي تطول فيها التقديمات للمتحدثين والباحثين، تلك التي تحمل نفس الكلمات «الترند» والمُغطاة بالنفاق! رغم كل البساطة في اللقاء والحديث والنقاش، لكن بعض الثقل خيَّم على الغرفة الباردة!
تمضي الحوارات هادئةً بعض الشيء، فالحضور - كما يبدو - اعتاد، كما هو حال العالم اليوم، على «اللون الواحد»!
لست بحاجةٍ إلى ذكاء لتعرف أنهم اعتادوا على بعضهم البعض، وعلى سقف للحوار، أو أنهم بمجملهم يبقون ضمن المربعات المرسومة، ولا يتخطونها حتى بالأسئلة الصعبة!
يبقى السؤال عالقاً، وهم يتحدَّثون بما يشبه الهمس، فهو الأمر الآخر الذي تعارفوا عليه في مثل هذه الاجتماعات، فإذا ما طرحت الأسئلة الصعبة أو ارتفعت نبرة الصوت أو لم تستخدم الكلمات والمصطلحات التي تعارفوا هم عليها، تبدأ نظرات الشك تجاه هذا القادم الجديد، بل ربما تساؤلات عن خلفيته وانتمائه، وربما حتى طائفته.
لم تكن نظرات الحضور لها تدل على ارتياح، بل بها كثير من علامات الاستفهام، والاستغراب، أو حتى الشك. ثم ما لبثت أن تحوَّلت تلك الغرفة الساكنة إلى خلية من الأيدي المرفوعة المتحفزة لمواجهة هذه القادمة بأسئلتها وتشكيكها وووو... فكانت أن انهالت عليها ردودهم، وهي في مُجملها تشكِّك فيما طرحته في شكل سؤالٍ أو حتى معلومة، منغمسين في ترديد هذه مبالغات، أو أنها غير مبنية على حقائق، أو، أو... ثم إذا واجهتهم بمصادرها ومراجعها، وهنا مهم التذكير أن هذه المراجع إن لم تكن من مراكز أبحاث ودراسات أو صُحف ووسائل إعلام أميركية أو أوروبية، فلا قيمة لها! لم يستسيغوا الإجابات والمصادر، فكانت أن رفعت الجلسة، فتنفسوا الصعداء.
قد يكون هذا اللقاء معبِّراً تماماً عن حال المعرفة والبحث العلمي الآن في كثيرٍ من جامعاتنا ومراكزنا. والأخطر أن هذا النمط من الاستهلاك المعرفي صار قادراً على إعادة تشكيل وعينا الجماعي، فحين نعتاد على الارتخاء في وضع المُتلقي يُصبح السؤال فعلاً شاذاً، بل يُصبح السائل «عدواً للشعب»!
في نهاية الاجتماع لملمت تلك «المنغصة»، بل «الدخيلة»، أوراقها، ورحلت، مُدركةً أن مثل هذه اللقاءات لم تعد تتحمَّل أن للحقيقة وجوهاً متعددة.
* ينشر بالتزامن مع الشروق المصرية