تتجه المؤشرات العالمية نحو قارة آسيا، حيث يُبشر خبراء الاقتصاد والجيوسياسيون الغربيون باعتبار القرن الحادي والعشرين «قرناً صينياً»، نظراً لكون الصين تبرز فيه كقوةٍ مهيمنة، وربما القرون التي تأتي بعده، وهذا القول يُشير إلى رؤية استراتيجية أو تنبؤ جيوسياسي، يُثير الجدل والنقاش بين المحللين والمراقبين لواقع النمو الاقتصادي الصيني السريع، فهي حالياً ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهذا التقدم لم يأت من فراغ، بل هو نتاج سياسات تنموية طويلة، وتخطيط استراتيجي يوازن بين الانفتاح الاقتصادي والصرامة السياسية، إضافة إلى القدرات متعددة الأبعاد، كالتقدم التكنولوجي والريادة العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة كشبكات الجيل الخامس، وتصنيع أشباه الموصلات، والطاقات المتجددة، وهو ما حذَّر منه وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر باعتباره «قوةً مُدمِّرة ستُغير موازين القوى العالمية»، كما أن مشاريعها الطموحة كـ «الحزام والطريق» - وهو مشروع ضخم يعزز نفوذها عالمياً من خلال الاستثمارات والبنى التحتية في قارات آسيا، وإفريقيا، وأوروبا - يعد عموداً لاقتصادٍ مُعولم تسيطر عليه الصين، ويُقدَّم بكونه البديل الجديد للنموذج الاقتصادي الليبرالي الغربي.
وفي ظل هذه الحقائق، لم تعد الصين تُقدِّم نفسها كقوة عظمى تعيد صياغة ملامح النظام العالمي فقط، بل أصبح هذا النظام واقعاً تفرضه الأرقام والسياسات والطموحات المتنامية لها، حيث لم يعد خافياً على أحد، فالصين دائماً ما تُبدي رغبتها في استعمار العالم اقتصادياً، وهذا ما ذهب إليه مؤلف كتاب «القرن الصيني... الهيمنة بلا احتلال» الدكتور عبد علي المعموري، بأن الصين تسعى نحو نظام عالمي جديد، وعولمة جديدة يراد أن تكون ذات صيغة وصبغة صينية، بل إنها تُدرك تماماً حجم التحديات لهذا النظام الجديد، والتي تُعد جِدّ كبيرة، فلا بُد من تقديمها لنموذج لعالمٍ تقوده ولعولمة صينية تقوم على ضمان ربحية كل الشركاء، توفر عدالة اقتصادية بشكلٍ مختلف عما آلت إليه أوضاع البلدان النامية بفعل العولمة الأميركية، وهذا ما بدأت العمل عليه وبخطوات منتظمة، لتُمسِك بصدارة معدلات النمو الاقتصادي، وحجم الإنتاج والتصدير، وكتلة الاحتياطي النقدي، فضلاً عن أنها باتت الشريك التجاري الأول للعديد من الدول، وهذه المؤشرات، بجانب الإمكانات الهائلة، والقدرات المادية والبشرية التي تمتلكها، وسعيها الذي لا يفتر صوب التقدم، وضعها في موقع «المُنافِس الفعلي» وليس «المُحتمل»، والذي بمقدوره تحدي الولايات المتحدة في القرن الجديد (القرن الصيني) وانتزاع المكانة منها.
ولهذا، فإن الصين أصبحت رقماً صعباً في المعادلة لا يمكن إنكارها، ومن هنا تأتي الدعوة إلى الاستعداد، والتفكير في هذه التحولات في ميزان القوى العالمية، وسواء كنا دولاً، أو مؤسسات، أو أفراداً، فمن المهم فهمها، وتكييف سياساتنا واستراتيجياتنا للتعامل معها، ومع هذا العالم، من خلال التنويع الاستراتيجي، وتعزيز السيادة التكنولوجية، وإصلاح الحوكمة، وإقامة التحالفات المرنة عبر بناء شراكاتٍ متعددة الأقطاب بدل الانحياز لمعسكرٍ واحد، فالدول التي تتجنب الثنائيات (مع/ ضد)، وتستثمر في أصولها الذاتية ستكون الأقدر على التعايش مع هذا القرن «الصيني»، كما أن تطوير العلاقات التجارية والسياسية مع الصين، وفهم ثقافتها وتأثيراتها العالمية، ستكوّن مشهداً عالمياً جديداً، يكون للعرب فيه البصمة والحضور والتأثير، وهذا ما نأمله.
* صحافي يمني