في صباح لم يكن مختلفاً عن غيره، كانت الفروانية تفتح أبوابها ليوم عادي، حينما كانت الأبراج تبث في سمائها أكثر من مجرد مكالمات ورسائل ودردشة بين الأحبة. كان هناك شيء آخر... رسائل لا تُرى، لكنها تُصيب. كلمات عابرة للهواء، تحمل في طياتها فخاخاً رقمية تنقض على ثقة الناس كما ينقض الذئب على فريسته.
وفي تحقيق نشرته جريدة الجريدة بتاريخ 14 فبراير 2025، كشفت وزارة الداخلية عن ضبط عصابة صينية متخصصة في الاحتيال الإلكتروني، كانت تدير عملياتها من داخل سيارة متوقفة قرب برج اتصالات في الفروانية، مستخدمة أجهزة متطورة لبث رسائل وهمية استهدفت الحسابات البنكية للمواطنين والمقيمين.
تخيلوا المشهد: أبراج الاتصالات، التي صُممت لتربطنا بمن نحب، تحولت إلى أدوات يستغلها المجرمون لتبث رسائل موجهة إلى قلوبنا الهادئة. رسالة تحمل اسماً مألوفاً، ورابطاً مضللاً، وإلحاحاً يوهمك بأن الوقت ينفد. وبينما يدك تهم بالنقر، تكون فخاخ الجريمة قد أطبقت على ضحاياها.
لكنها ليست الكويت وحدها، فبعدها بأشهر قليلة، وقعت عمان في الفخ ذاته، حين ضبطت شرطتها سائحة صينية تدير نفس النوع من العمليات الاحتيالية، مستغلة نفس التقنية، ونفس نقاط الضعف، ونفس الثقة العمياء.
وما حدث ليس مجرد قرصنة تقليدية، بل هو استخدام لأجهزة تُدعى IMSI Catchers، أو ما يُعرف شعبياً بـ «الأبراج المزيفة»، وهي أجهزة تُقنع الهواتف القريبة بأنها برج الاتصالات الرسمي، فتنقل إليها الهواتف بثقة، ليتم من خلالها بث رسائل وهمية والتنصت على المكالمات أو سرقة البيانات التي يرسلها المستخدمون دون وعي. إنها جريمة حديثة ترتدي عباءة البنية التحتية التي نثق بها.
وتشير تقارير الأمن السيبراني الخليجية والدولية إلى أن منطقة الخليج العربي تشهد سنوياً ارتفاعاً متواصلاً في محاولات الاحتيال الإلكتروني عبر الرسائل النصية والمكالمات المزيفة.
فبحسب بيانات صدرت عن هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات السعودية (CITC) والهيئة العامة للاتصالات وتقنية المعلومات الكويتية (CITRA)، ومراكز الأمن السيبراني العالمية، مثل كاسبرسكي وتريند مايكرو، ارتفعت محاولات التصيد والاحتيال في الخليج بنسبة تتراوح بين 30 و40 بالمئة سنوياً خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
وتُقدر الشركات الأمنية أن دول الخليج سجلت خلال عام 2024 وحده آلاف البلاغات عن عمليات احتيال عبر الرسائل النصية، استهدفت الحسابات البنكية، وخدمات الدفع الإلكتروني، وحتى المعاملات الحكومية.
هذه الأرقام تؤكد أن الجريمة لم تعد فردية ولا عشوائية، بل عابرة للحدود ومنظمة بشكل احترافي.
فلسفياً... من يملك الأثير؟ منذ بدء الخليقة، لم يكن الهواء ملكاً لأحد. لكنه اليوم بات مسرحاً لصراع صامت بين الخير والشر، بين من يستخدم التقنية للربط بين القلوب، ومن يوظفها للسطو على العقول.
ونحن - كأفراد - نقف بين الاثنين، نملك قرار النقر أو الامتناع عنه. نملك قرار الوعي أو السذاجة. وهنا يكمن جوهر القصة.
رسالتي إليكم: لا تصدقوا كل ما يأتيكم في صمت في عالم امتلأ بالصوت، الخطر الحقيقي يكمن في الصمت. الرسائل الوهمية لا تصرخ، لكنها تخدع. والأجهزة المزيفة لا تصدر أصواتاً، لكنها تسرق بلا رحمة.
قبل أن تضغط على رابط، اسأل نفسك هل هذه الجهة تتواصل معي عادة بهذه الطريقة؟ وهل الرابط يبدو موثوقاً؟ ألا يمكنني الاتصال بالبنك أو المؤسسة لأتأكد بنفسي؟
ففي النهاية، الهاتف ذكي... لكن الذكاء الحقيقي في يد من يستخدمه.
كلمة أخيرة...
الحرب ضد الجريمة السيبرانية ليست معركة بين الشرطة والمجرمين فقط، بل معركة يعيشها كل واحد منا يومياً، في جيبه، وفي رسائله، وفي يقظته الرقمية.
ولنعلم جميعاً أن «الوعي» كان وسيظل هو البرج الحقيقي الذي نحتمي به من كل فخٍ صامت.
* باحث في علوم الأدلة الجنائية والذكاء الاصطناعي