قيل الكثير عن الوفاء، وإنه أمر إنساني وعاطفي وحتى مصلحي لا يمكن التكهن بمدى الالتزام به، حتى قيل عنه لندرته إنه «أعز من بيض الأنُوق»، والأنوق هو طائر العقاب أو الرخمة، لأن بيضه صعب المنال لوجوده في أعشاش على قمم الجبال الشاهقة.

وهناك مثل عربي أشهر عن ندرة الخل الوفي، حتى اعتُبر أحد المستحيلات الثلاثة: «الغول والعنقاء والخل الوفي»، فالغول والعنقاء كائنان خرافيان لا وجود لهما، واعتُبر الخل الوفي مثلهما.

Ad

ويبدو أن السموأل هو مَن شذّ عن ذلك الاعتقاد، حتى ضُرب به المثل في الوفاء، حتى قيل عنه: «أوفى من السموأل».

ووراء هذا المثل قصة، فقد رُوي أن امرأ القيس أراد المُضيّ إلى قيصر ملك الروم، فأودع عند خِلّه الوفي (السموأل) مقتنيات ثمينة ومعها خمس دروع ورثها عن أبيه عن جده عن جدوده ملوك كندة، وهي: الفضفاضة، والضافية، والمحصنة، والخريق، وأم الذيول.

ومات امرؤ القيس ومقتنياته لا تزال عند السموأل، فطمع فيها ملك الحيرة، الحارثُ بن أبي شَمِر الغَسّانيّ، وأرسل إليه يطلبها، فلما رفض سار إليه بجيشه يريد سلب تلك الأمانة قسراً، فلجأ السموأل إلى حصنه المعروف بـ «الأبلق» الواقع في تيماء، والذي ورد ذكره في مقالتنا السابقة «تَمَرَّدَ مارِدٌ وَعَزَّ الأبلق»، فَعَِصي عليه اقتحامه كما عصي على غيره.

وصادف أن كان ابن السموأل خارج الحصن في مُتَصَيَّدٍ له، فأخذه الحارث أسيراً، وخيّر أباه بين دَفْعِ الذي في حِرْزه أو قَتْل ابنه، فاختار السَّموأل الوفاءَ بالذِّمّة، قائلاً: «ما كنت لأخفر ذمامي، وأبطل وفائي، فاصنع ما شئت»، فذبح ولده والسموأل ينظر، وأصبح السموأل مثلاً يُضرب في الوفاء، حتى قالت العرب فيه: «أوفى من السموأل»، وقال النابغة الذبياني فيه:

وَكَانَ السَّمَوْأَلُ مِمَّنْ شَادَ مَبْنِيَّةً

مِنْ بَيْتِ عَادَاءَ وَالْأَقْوَامُ قَدْ بَادُوا

إِذَا مَا أُهْدِيَ لِلْقَوْمِ دِرْعُهُ

فَلَمْ يُعْطِهِ حَتَّى تَبِيدَ الْأَوْلَادُ

إنه السموأل بن غريض بن عادياء الأزدي، وهو شاعر جاهلي يهودي عربي، كان ذا بيان وبلاغة، وأحدَ أكثر الشعراء شهرةً في وقته، وُلد في نهايات عام 400 من الميلاد.

وحتى لا يشكل الأمر على البعض، فإن هناك أيضاً السموأل بن يحيى المغربي، المولود في بغداد سنة 1130م، وهو أيضاً كان يهودياً، لكنه اعتنق الإسلام لاحقاً، كان عالماً فلكياً، وطبيباً بارزاً، ومن أبرز علماء الجبر في العصر الذهبي للإسلام، وله مؤلفات مهمة، مثل «الباهر في الجبر»، وهو مَن قدّم مفهوم استخدام الأعداد السالبة في العمليات الحسابية، وطور طرقاً للتعامل مع المعادلات وعملياتها، بما في ذلك القسمة والضرب، واستكشف حساب الكسور، إضافة إلى إسهامات ملحوظة في علم الفلك، وكتب عن الأدوات الفلكية ورصد الأجرام السماوية، وفي الطب ألّف عدة رسائل، منها أعمال عن أمراض العيون، فكان عالماً حقيقياً.

اللهم اجعلنا من الأوفياء في عهودنا، وقَرِّب إلينا الخِل الوفي، الذي إذا حدّث صَدَق، وإذا وعد أنجز، وإذا اؤتمن أوفى.