في الممرات البيضاء، حيث يمتزج الأمل بالقلق، والدعاء بصوت الأجهزة، تكون الكلمة أحيانًا أثقل من الألم.
في إحدى غرف المستشفى، ترقد أمٌّ أنهكتها العملية، محاطة ببناتها اللواتي لم يغادرنها لحظة، يعتنين بها، يسهرن على راحتها، ويكفكفن عنها كل ما يمكن أن يعكّر لحظة نقاهتها.
يدخل الزوار، تتباين نواياهم، وتتشابه العبارات التي تُقال بعفوية، لكنها تحمل وقعًا موجعًا.
إحداهن تقول بصوت عالٍ: «عاد جبتوا لها غدا بدال أكل المستشفى؟»
وأخرى تتبعها: «في أحد راح يبات معاك الليلة؟»، وثالثة تعلّق: «لا تعتمدون على الخدم... خل تقعد بنت على يمين الأم والثانية على اليسار!»
هكذا، كلمة وراء كلمة، لا يُقصد منها الأذى - ربما - لكنها تُغرس كالإبرة في صدر الأم، فتُربك قلبها وتُشككها، وتزرع بين لحظة وأخرى وهمًا اسمه: «هل بناتي فعلاً مقصرات؟»
وأثارت في نفوس بناتها شعورًا مريرًا بأن عطاءهن لا يُرى، وتضحياتهن لا تُحسَب، وفي المقابل، تقف البنات في حرجٍ صامت، ووجع لا يُقال. فالذي يبذل جهده بروحه لا ينتظر الثناء، لكنه بالتأكيد لا يستحق الشك.
نحن أحيانًا لا نُدرك أن أخفّ الكلمات وزنًا، قد تكون الأثقل أثرًا، وأن العبارات التي نُلقيها في المجالس والمستشفيات، دون تفكير، قد تترك وراءها ظلالاً من الألم والريبة، يصعب محوها ولو بعد حين. الكلمة ليست مجرّد صوت... إنها مسؤولية، وما يُقال على سبيل الدردشة، قد يكون بداية صدع لا يُرمم.
تخيّل شخصًا يملأ كوبًا بالماء، وكلما قيلت كلمة عابرة، زادت قطرة من الماء العكر في الكوب.
قالت إحداهن: «هل جلبتم طعامًا لأمكم؟»... فسقطت قطرة.
وقالت أخرى: «هل ستنام معها إحداكن؟»... فسقطت قطرة أخرى.
ثم أُتبعت بقول ثالثة: «لا تعتمدوا على الخدم!»... فاض الكوب.
لكنّ المشكلة ليست فقط في أنه فاض، بل إن ما فاض كان مزيجًا من ماء نقي اختلط بالعكر، فأفسده، وهكذا تفعل الكلمة حين لا تُوزن، تلوّث الصورة، وتفسد الصفاء، ولو لم يُقصد منها شيء.
رأى رجلٌ طفلًا يبكي إلى جانب والده في ردهة مستشفى، فاقترب منه قائلاً باستخفاف:
«لا تبكِ يا ولد، أكيد أبوك صرخ عليك لأنك كنت مزعج!»... سكت الأب، وضمّ ابنه بهدوء دون كلمة.
وفي الخارج، قال الطفل بصوت متهدّج: «أنا ما كنت أزعجك يا بابا... كنت أبكي لأن أختي بالمستشفى».
فالكلمات لا تخطئ وجهتها فقط، بل أحيانًا تصيب مَن لا ذنب له، وتُربك حتى اللحظات النبيلة.
دعونا نتعلم أن نفكر قبل أن نتكلم، لا بعد أن نؤذي، وألّا نبرر جرح الكلمات بحسن النيّة، فحتى النار تبدأ بشرارة لا تُقصد.
وكما قال أحد الحكماء: «اللسان سهم، وسهم الكلمة لا يُصيب الجسد، بل يصيب الروح، وأثره يدوم أطول».