من اقتصاد سنغافورة القائم على الابتكار، إلى دولة الإمارات كمحور عالمي للخدمات، ومن طفرة التصنيع في فيتنام إلى التصنيع الموجّه من الدولة في الصين، أعادت العديد من الدول رسم مساراتها الاقتصادية خلال العقدين الماضيين. واليوم، تقف الكويت عند مفترق طرق مشابه. فبفضل ما تملكه من ثروة سيادية ضخمة، وسكان شباب ومؤهلين، وموقع جغرافي استراتيجي، تمتلك الكويت فرصة لإعادة تعريف أسس اقتصادها بما يتماشى مع متطلبات القرن الحادي والعشرين.
تستعرض هذه المقالة الدروس المستفادة من أبرز الاقتصادات أداءً في العالم، وتقترح استراتيجيات عملية يمكن للكويت تبنيها، دون الإخلال بنسيجها الاجتماعي أو استقرارها الاقتصادي، لتحقيق تحول يجعلها اقتصاداً تنافسياً مستعداً للمستقبل.
1. الإمارات وسنغافورة: منصات اقتصادية وليست مجرد دول
أظهرت كل من الإمارات وسنغافورة، كيف يمكن لدول صغيرة ذات طلب محلي محدود أن تصبح قوى اقتصادية عالمية من خلال تموضعها كمنصات إقليمية ودولية للأعمال. فقد ركزتا على قطاعات مثل الخدمات اللوجستية، والتمويل، والسياحة، والبنية التحتية الرقمية، ليس فقط لخدمة سكانهما، بل لتكونا بوابتين محوريتين للتجارة والخدمات العالمية.
الدرس للكويت: يمكن للكويت أن تتبنى عقلية مماثلة عبر إعادة توجيه نموذجها الاقتصادي من دولة رعاية إلى منصة للتجارة والاستثمار على المستوى الإقليمي والعالمي. فالسوق لم يعد يقتصر على من يعيش داخل حدود الدولة، بل يمكن للكويت أن تصبح مركزاً يخدم منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا والأسواق الناشئة.
2. فيتنام: التصنيع للتصدير والاندماج الذكي في الاقتصاد العالمي
حقق الاقتصاد الفيتنامي صعوداً مذهلاً بفضل مستويات مرتفعة من الاستثمارات الأجنبية، وسياسات صناعية قوية، وتركيز حثيث على النمو القائم على التصدير. وبفضل خارطة طريق واضحة وتنافسية عالية، اندمجت فيتنام في سلاسل الإمداد العالمية في مجالات الإلكترونيات، والمنسوجات، والرقائق الإلكترونية.
الدرس للكويت: تستطيع الكويت استنساخ هذا النموذج من خلال جذب الشركات العالمية الباحثة عن مناطق ذات رسوم جمركية منخفضة لخدمة الأسواق الأميركية والخليجية. ومع الإعفاء من ضريبة الدخل، وانخفاض أسعار الكهرباء، وتوافر التمويل الميسر (بفوائد %3 أو أقل)، وتفوق جمركي جديد بنسبة %10 مقارنة بـ %25 على الصين، تُعد الكويت موقعاً مثالياً للتصنيع في مجالات ذات قيمة عالية وبصمة بيئية منخفضة، مثل رقائق السيليكون، وقطع الغيار الدقيقة، والكيماويات المتخصصة، أو تصنيع الأغذية المضافة القيمة.
3. الصين: استخدام الشركات المملوكة للدولة ورؤية صناعية طويلة الأمد
شهدت الصين تحولاً من اقتصاد منخفض الدخل إلى اقتصاد متوسط الدخل من خلال استراتيجية وطنية منسقة، حيث تواجدت الشركات الحكومية والخاصة ضمن أهداف صناعية واضحة. لم تترك الصين نموها للصدفة، بل أنشأت كيانات وطنية كبرى في مجالات النقل والطاقة والاتصالات والرقائق الإلكترونية وغيرها.
الدرس للكويت: يمكن للكويت أن تتبنى نموذجاً مشابهاً بشكل انتقائي من خلال تمكين شركاتها الحكومية وصناديقها السيادية للمشاركة في استثمارات استراتيجية في قطاعات مثل التكنولوجيا المالية الإسلامية، والهيدروجين الأخضر، والميكروشرائح، والزراعة الذكية. على سبيل المثال، استثمارات مركزة بقيمة 100 مليون دولار في مشاريع ابتكار متقدمة يمكن أن تخلق تأثيرات بمليارات الدولارات خلال 5 سنوات، مع إمكانات تصديرية إقليمية وعالمية.
4. الاستفادة من العمالة الوافدة كمحرك اقتصادي
من أبرز عوامل النجاح الصامتة في الإمارات وسنغافورة قدرتهما على تحويل العمالة الأجنبية إلى أصول وطنية. فبفضل إقامات طويلة الأمد، وتراخيص ميسرة، وحوافز مهنية، تم تحويل العقول الأجنبية، والشركات الصغيرة، ورؤوس الأموال إلى محركات للنمو الوطني.
الدرس للكويت: يمكن للكويت أن تدرس نماذج مشابهة عبر إقامات استراتيجية قابلة للتجديد، وحوافز لتأسيس مشاريع صغيرة من قبل الوافدين، والمشاركة في صناديق استثمار مشترك أو مجمعات تكنولوجية. كما يمكن لشبكة منظمة من المهنيين الأجانب المرتبطين بتأشيرات استثمارية أن تعزز الناتج المحلي وتنقل المعرفة دون التأثير على التوازن الديموغرافي.
5. الاقتصاد الحلال والتكنولوجيا المالية الإسلامية
يتوقع أن تتجاوز قيمة الاقتصاد الحلال العالمي 7 تريليونات دولار بحلول 2030، ويشمل قطاعات مثل الأغذية، ومستحضرات التجميل، والأدوية، والموضة، والسياحة، والتمويل. ومع ذلك، لم تظهر حتى الآن دولة واحدة كمركز عالمي بلا منازع لهذا الاقتصاد.
الدرس للكويت: بفضل إرثها الإسلامي العميق، ومؤسساتها المالية الموثوقة، وموقعها في قلب الخليج، يمكن للكويت أن تتموضع كمركز عالمي للتكنولوجيا المالية الإسلامية، من خلال تطوير منتجات رقمية متوافقة مع الشريعة للأسواق الإسلامية في منظمة التعاون الإسلامي وما بعدها. وبناء تحالفات استراتيجية مع جنوب شرق آسيا، وإفريقيا، والجاليات الإسلامية الغربية، يمكن للكويت أن تقود خدمات التمويل الإسلامي عبر الحدود وأنظمة الاعتماد الحلال.
6. ميزة الكويت الجمركية: نافذة استراتيجية نادرة
مع فرض الولايات المتحدة تعرفة جمركية بنسبة %10 فقط على الكويت (مقابل ما يصل إلى %25 على كبار المصدرين)، تملك الكويت فرصة نادرة لجذب التصنيع الموجه نحو السوق الأميركية. وعند دمج ذلك مع:
• انعدام ضريبة الدخل.
• انخفاض أو غياب الضرائب على الشركات.
• كلفة تشغيلية وكهرباء منخفضة.
• قطاع مصرفي مستقر يقدم قروضاً بتكلفة منخفضة.
تصبح الكويت قاعدة مثالية للشركات من الهند وألمانيا وسويسرا واليابان وإندونيسيا وغيرها لتوطين جزء من صناعتها وإعادة التصدير منها.
وإذا تم استغلال هذه الفرصة بشكل حكيم، يمكن أن تضيف ما بين 1 إلى 10 مليارات دولار إلى الناتج المحلي غير النفطي خلال 3 إلى 5 سنوات.
7. استضافة وحضانة مشاريع ابتكار رائدة
يكمن التفوق الاقتصادي المقبل في استضافة مشاريع بحث وتطوير رائدة في مجالات التكنولوجيا الصحية، والتكيف المناخي، والروبوتات، والميكروشرائح. ومن خلال استثمارات مبكرة لا تتجاوز 100 مليون دولار، يمكن للكويت أن تصبح مساهماً في مستقبل الصناعات العالمية.
الدرس للكويت: بدلاً من اللحاق بركب الآخرين، تستطيع الكويت أن تقود في القطاعات الناشئة من خلال حواضن انتقائية، وشراكات جامعية متخصصة، وصناديق استثمار سيادية مشتركة. هذا النهج سيخلق وظائف، ويجذب العقول العالمية، ويجعل من الكويت مركزًا للابتكار.
مسار الكويت نحو هوية اقتصادية جديدة
لا تحتاج الكويت إلى التخلي عن نموذجها الاقتصادي الأساسي، بل يمكنها أن تطوّره من خلال سياسة صناعية مدروسة، وتموضع عالمي، واستثمار في البشر والشراكات. إن تجارب آسيا والخليج وسواهما تُظهر بوضوح أن الدول التي تتصرف برؤية طويلة الأمد تحقّق الازدهار.
يمكن للكويت أن تظل فخورة بتراثها، مع التحول إلى منصة ديناميكية قائمة على التصدير والابتكار تخدم العالم. ومع التوجيه السياساتي السليم والتنفيذ الطموح، يمكن أن يبدأ هذا التحول اليوم من دون صدمات، بل بعزيمة وإرادة.
• الرئيس التنفيذي لشركة دو كابيتال في سي، ومحاضر زائر في ريادة الأعمال، ومؤسس الغرفة الإسلامية العالمية للتجارة والصناعة عبر الإنترنت. وهو أيضاً متحدث عالمي في مجالات الاستراتيجية وتطوير الشركات الناشئة، ويُعرف برؤاه في الاقتصاد وبناء منظومات أعمال مبتكرة، وأخلاقية، وقابلة للتطوير.