عندما تطأ قدماك سجن النساء، لا تُقابل فقط بجدران عالية وأبواب موصدة، بل تكتشف وجوهاً تحاول أن تصنع حياة وسط القيود، وأمهات يحتضنّ أطفالهن في لحظة عابرة من الأمل.

لكن أكثر ما بقي محفوراً في ذاكرتي، هو مشهد الطفلة هيا في حضن أمها، تحمل دميتها وتحدثني عن «حمام السباحة» وكأنها عادت للتو منه!

Ad

لم تسبح من قبل، ولم تخرج من هذه الجدران، لكنها رسمت الحلم في عقلها، وصدّقته بقلبها.

في تلك اللحظة، لم تكن هيا فقط طفلة تتحدث، بل كانت تعلّمنا أن الطفولة لا تعرف القضبان، وأن الحلم لا يحتاج إلى مساحة كبيرة كي يعيش.

وداخل سجن النساء، توجد حضانة مخصصة للأطفال الذين يعيشون مع أمهاتهم، هذه الحضانة ليست مجرّد غرفة، بل محاولة حقيقية للحفاظ على العلاقة الإنسانية الأولى في حياة الطفل، حضن الأم.

ورغم التحديات، تسعى الكوادر المسؤولة لتوفير بيئة آمنة ورعاية نفسية وتربوية، حتى ينمو الطفل -قدر المستطاع- في أجواء مستقرة. وتبقى هذه الحضانات واحدة من أهم أركان العدالة الرحيمة التي يجب أن تُعزز في جميع المؤسسات الإصلاحية.

في حضن الأم، وسط كل هذا السكون الثقيل، يبقى صوت الطفل، وضحكته، وحتى بكاؤه، دلالة على أن الحياة لاتزال موجودة.

في سجن النساء، كثير من النزيلات هن ضحايا قبل أن يكُنَّ متهمات. خلف كل واحدة منهن قصة: فقر، ظلم، جهل، أو حتى دفاع عن النفس، ولهذا فإن بيئة السجن بحاجة إلى نظرة إنسانية شاملة، تتيح إعادة التأهيل، لا تنفيذ العقوبة فقط.

وبرامج الحضانة، والتعليم، والدعم النفسي، ليست امتيازات، بل أدوات ضرورية لتغيير المسار وتمهيد طريق العودة للمجتمع.

ما شهدته داخل سجن النساء في الكويت، من اهتمام بالجانب الإنساني، لا يمكن إغفاله، فهناك جهود يومية تُبذل بصمت، خلف الأبواب المغلقة، لإدارة هذا الملف الحساس بروح مسؤولة ومتزنة.

ومن هنا يطيب لي أن أتقدم بالشكر والتقدير إلى العقيد ناصر المسلم، على حرصه الدائم ومتابعته لكل ما يتعلق برعاية النزيلات وأطفالهن، والعميد أسامة الماجد، على قيادته الهادئة وجهوده في خلق بيئة متوازنة داخل السجن، والعقيد نوف الكهيلي، على عطائها المخلص، وحضورها الدائم كأم ثانية للأطفال، وسند حقيقي للأمهات.

ولا أنسى أن أتوجّه بالشكر إلى الأخت الفاضلة ندى بورسلي، على دعمها المستمر وغير المحدود لمشروع حضانة الأطفال، كصوت إنساني مؤمن بأن الطفل يستحق الحماية والرعاية أينما وُجد. نموذج مشرِق في ظل الحاجة إلى مبادرات صادقة.

من حضن هيا... إلى ضمير المجتمع

حين كانت هيا تحتضن دميتها وتتكلم عن «الماء»، كانت ترسم لنا خريطة نحو ما يجب أن نكون عليه: مجتمع يَسمع، ويَفهم، ويُقدّر قيمة الحلم حتى إن كان في زنزانة، فالرحمة لا تحتاج إلى قانون... بل إلى إنسان.