في زمنٍ تتسارع المتغيِّرات، ويُعاد تشكيل سوق العمل كل يوم، لا يزال كثيرٌ من الناس متمسكين بالتخصصات الجامعية التقليدية، وكأن لا شيء تغيَّر من حولنا!

نعم، لا يمكننا إنكار أهمية الطب، والهندسة، والقانون، والتعليم، فهي تخصصات أساسية لبناء المجتمع واستقراره، لكنها لم تعد كافية وحدها من دون تجديد وابتكار.

نحن لا نطالب بالتخلي عن التخصصات التقليدية، بل نطالب بإعادة تصورها وتطويرها بما يواكب عالم اليوم، فطبيب اليوم بحاجة لفهم الذكاء الاصطناعي في التشخيص، والمهندس يحتاج إلى أدوات تحليل البيانات والطباعة الثلاثية الأبعاد، ورجل القانون عليه أن يواكب قضايا التكنولوجيا والقانون الرقمي، لكن مع الأسف، ما زال البعض يختار تخصصه بدافع رغبة الأهل، أو لمجرَّد أنه «مضمون اجتماعياً»، من دون التفكير فيما إذا كان هذا التخصص قادراً على خلق فرصة حقيقية في المستقبل.

Ad

المعضلة الأكبر تكمن في ضغط المجتمع، الذي يضع صورة الطبيب والمهندس على القمة، ويستخف بتخصصات مثل الأمن السيبراني، وتحليل البيانات، وتصميم الواقع الافتراضي، رغم أن هذه المجالات أصبحت اليوم من أكثر المهن طلباً على المستوى العالمي، ولا يخفى أن كثيراً من المدارس لا تقدِّم ندوات مهنية، ولا تزرع في عقول الطلبة أفكاراً جديدة أو تخصصات مستقبلية، مما يجعلهم محصورين في خيارات تقليدية، واللوم هنا لا يقع على الطالب ولا على أسرته، بل على المدارس التي قصَّرت في دورها التوجيهي.

ومن هنا، نطالب وزارة التربية بأن تُعيد النظر في آليات التوجيه المهني، وتُدخل تخصصات المستقبل ضمن التوعية المدرسية، لأن بناء الوعي يبدأ من الصفوف الأولى.

ونحن اليوم بحاجة إلى أن نمنح شبابنا الحُرية الواعية في اختيار مسارهم، بعيداً عن القيود التقليدية، وبمساندة مجتمعية ومؤسسية تُشجع على الاكتشاف والتجربة.

وكوني في بداية عُمري، أعيش تحديات الاختيار، وأُدرك صعوبة التوفيق بين الشغف وضغوط المجتمع، أنصح كل ولي أمر بأن يوجِّه أبناءه، لا أن يفرض عليهم، وأن يفتح أمامهم أبواب الحوار والتفكير، لا أن يغلقها بالقرارات المسبقة. اختاروا لأبنائكم المسار الصحيح، لا الأريح لكم اجتماعياً، بل الأنفع لهم واقعياً.

المستقبل لا ينتظر، والمجتمع المتقدِّم لا يُبنى فقط بالموروث، بل بدمج الأصالة بالابتكار. دعوا أبناءكم يُبدعون في الطب، لكن بطبّ المستقبل. دعوهم يدرسون الهندسة، لكن بهندسة تُواكب العالم الرقمي. دعوهم يختارون، وكونوا الداعمين لا المثبطين. الحُرية في الاختيار حين تُمارَس بوعي تخلق مستقبلاً لا يُنسى، فلنثق بشبابنا، ولنفتح لهم الطريق... لا نقوده عنهم.