تُشكّل الأخلاق ركيزة أساسية في بناء النظم القانونية وتنظيم العلاقات المجتمعية، إذ تسهم في ضبط السلوك وضمان العدالة. ومع تحوّل القيم التقليدية بفعل الانفتاح الثقافي والتطور التكنولوجي، برزت الحاجة إلى ملاءمة التشريعات مع المتغيرات المعاصرة.

ورغم التقاطع بين القانون والأخلاق في غاياتهما السامية، يبقى الجدل الفلسفي قائماً حول مدى تبعية القانون للأخلاق، ومدى استقلالية كلّ منهما.

Ad

فبينما يرى بعض فلاسفة القانون، كالفقيه الألماني غوستاف رادبروخ، أن القانون يفقد مشروعيته إذا انسلخ عن معايير العدالة والأخلاق، بما يعكس قناعاته المعادية للنازية التي عاصرها، يؤكّد آخرون، من أنصار «القانون الوضعي»، أمثال فيلسوف القرن العشرين الإنكليزي هربرت هارت، أن صلاحية القانون تُقاس من حيث فعاليته الإجرائية لا مضمونه الأخلاقي.

يزداد هذا الجدل تعقيداً في المجتمعات التعددية، حيث تتباين الرؤى الأخلاقية تبعاً للثقافة والدين والخلفية الاجتماعية، فقد يفرض القانون تنظيماً أو ترخيصاً لإجراء معيّن يطالب به مجتمع معيّن، في حين يلقى هذا التنظيم اعتراضات أخلاقية واسعة في مجتمعات أخرى، كما في قوانين الإجهاض أو «القتل الرحيم»، وهذا ما يؤكد أن توحيد المعايير القانونية مسألة خلافية، خاصة في قضايا تتسم بالحساسية والتطور، مثل حقوق الإنسان، المسؤولية المجتمعية، العدالة البيئية، وتوظيف الذكاء الاصطناعي.

ونتيجة ما سبق، يواجه المشرّعون على المستويين الدولي والوطني تحدياً مستمراً للتوفيق بين المبادئ الأخلاقية والنصوص القانونية، إلّا أنه - رغم تحديات التوافق على النصوص وتطبيقها العملي - تؤكد الوثائق الدولية الكبرى هذا الترابط، باعتبار أن الكرامة الإنسانية لا تتحقق إلا ضمن إطار قانوني يعكس القيم الأخلاقية ويحترم التعددية والخصوصيات الثقافية.

وفي السياق، تنص ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، على أن الكرامة المتأصلة والمساواة بين البشر تمثّل أساس الحرية والعدل والسلام. كما جاء في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 أن لكل فرد حقاً في حرية الفكر والوجدان والدين، مما يعكس احترام الضمير الأخلاقي كحقّ قانوني أصيل. وفي أوقات النزاعات، شددت اتفاقيات جنيف لعام 1949 على المعاملة الإنسانية لغير المشاركين في القتال دون تمييز، تعزيزاً لروح الرحمة والعدالة.

وإلى جانب ذلك، أكد إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية لعام 2007 حقها في الحفاظ على موروثاتها الثقافية والدينية، وكرّست اتفاقية «يونسكو» لعام 2003 حماية التراث الثقافي غير المادي، معتبرة العادات والتقاليد والممارسات الدينية جزءاً من هوية الشعوب.

من ناحية أخرى، وسّع القانون نطاق ارتباطه بالقيم الأخلاقية، ليشمل مفاهيم معاصرة مثل المسؤولية المجتمعية والتنمية المستدامة والعدالة المناخية، إدراكًا لأهمية توجيه السلوك القانوني نحو الصالح العام وحقوق الأجيال القادمة.

فقد أقرّ الميثاق العالمي للأمم المتحدة لعام 2000 مبادئ أخلاقية ملزمة للشركات، أبرزها احترام حقوق الإنسان، ومعايير العمل، والبيئة، ومكافحة الفساد، في إطار التزام طوعي يعكس البعد الأخلاقي للمسؤولية المجتمعية. وفي السياق ذاته، أكدت أجندة الأمم المتحدة 2030 للتنمية المستدامة ترابط الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، داعية إلى «عدم ترك أحد خلف الرَّكب»، في إشارة إلى واجب أخلاقي عالمي بتقليص الفجوات وتحقيق العدالة.

ومع تسارع التطور التكنولوجي وتوسُّع استخدام الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل، تزايدت التحديات التي تلامس تقاطع القانون والأخلاق، حيث برزت الحاجة إلى أطر تنظيمية تحمي خصوصية الأفراد وتضمن العدالة في بيئة رقمية معقّدة. فحماية البيانات الشخصية، ومكافحة الجرائم الإلكترونية، والتعامل مع مسؤولية الأنظمة المؤتمتة كالسيارات الذاتية القيادة والجرّاح الآلي، أصبحت قضايا تتطلب تشريعات دقيقة تراعي الأبعاد الأخلاقية. كما أثار اعتماد الخوارزميات في اتخاذ قرارات مصيرية، مثل التوظيف والقروض، مخاوف من التمييز والتحيّز غير المقصود، مما دفع بعض الدول والمؤسسات الإقليمية والدولية إلى تبنّي قوانين تضمن الشفافية والمساءلة، في محاولة لتحقيق توازن بين التطور التقني وصون القيم الإنسانية والحقوق الأساسية.

**

رغم ما قد يبدو من مثالية وطوباوية في الطرح، يظل التحدي قائماً أمام الأنظمة القانونية لمواكبة التحولات، من دون المساس بالحقوق الأساسية والثوابت المجتمعية والقيمية، إذ لا يمكن للقانون أن يكون فعالاً دون أساس أخلاقي متين وصلب، كما أن الأخلاق من دون قانون قد تبقى مجرّد مبادئ غير ملزمة، مما يجعل العلاقة بينهما محوراً رئيسياً في صياغة حاضر المجتمعات ومستقبلها.