تواجه دولة الكويت تحديات صحية متزايدة، تتمثل في الانتشار الواسع للأمراض المزمنة، مثل السكري، والسمنة التي نتصدر بها المشهد العالمي من حيث نسب الإصابة، إضافة إلى أمراض القلب والكلى.
وقد دفعت هذه التحديات الجهات الصحية والعلمية للتفكير في حلول جذرية تقوم على أسس علمية دقيقة. من بين هذه المبادرات الحيوية، يبرز مشروع الجينوم الكويتي بوصفه خطوة استراتيجية نحو تطبيق الطب الدقيق، القائم على فهم البنية الوراثية للفرد من أجل تحسين التشخيص والعلاج والوقاية.
ومع أهمية هذا المشروع، تزداد الحاجة إلى توسيع نطاقه وربطه بمشروع آخر لا يقل أهمية، وهو مشروع الإكسبوسوم، الذي يُعنى بدراسة مجمل العوامل البيئية التي يتعرّض لها الإنسان طوال حياته، وتأثيرها على صحته وتفاعلاته الجينية.
يهدف مشروع الجينوم إلى تحليل التسلسل الوراثي لمواطني الكويت، من أجل بناء قاعدة بيانات جينية تساعد في فهم أسباب الأمراض الوراثية والمزمنة، ويمكن من خلال هذا المشروع اكتشاف الطفرات الجينية المرتبطة بأمراض نادرة، مثل بعض أمراض الدم والكلى والسرطان، كما يمكن تحديد المتغيرات الجينية التي ترفع خطر الإصابة بالأمراض الشائعة في المجتمع الكويتي.
لكن هذه المعلومات، رغم أهميتها، لا تعطي الصورة الكاملة، لأن الغالبية العظمى من الأمراض المعقّدة لا تنشأ بسبب الجينات وحدها، بل نتيجة تفاعل هذه الجينات مع عوامل بيئية متعددة، تشمل التغذية ونمط الحياة وكذلك التلوث والعوامل المناخية.
الإكسبوسوم هو المصطلح العلمي الذي يعبّر عن «المحيط البيئي الداخلي والخارجي» الذي يتعرّض له الإنسان منذ لحظة ولادته وحتى وفاته، ويشمل الهواء الذي يتنفسه، الطعام الذي يتناوله، الملوثات، المواد الكيميائية، نمط النوم، النشاط البدني، وحتى التوتر النفسي.
هذه العوامل تترك بصمتها على الجينات، ليس من خلال تغيير تسلسلها، بل من خلال التأثير على كيفية تعبيرها عن نفسها، وهي عملية تُعرف بالتعديل فوق الجيني. وتشير دراسات عالمية حديثة إلى أن أقل من 10 بالمئة من الأمراض المزمنة تُفسَّر بالكامل بالعوامل الوراثية، بينما تؤدي البيئة دورًا مهمًا في أكثر من 90 بالمئة منها.
في الكويت، حيث تصل معدلات «السكري» بين البالغين إلى 25 بالمئة، لا يمكن تفسير هذا الرقم المرتفع من خلال الجينات وحدها، إذ تشير الأدلة إلى أن نمط الحياة الغني بالسعرات الحرارية، وقلة الحركة، وتعرّض السكان لدرجات الحرارة العالية وتلوث الهواء المزمن، هي عوامل بيئية رئيسية تسهم في تطور المرض.
ولأن الكويت تمتلك بيئة مناخية قاسية وتركيبة سكانية مستقرة نسبيًا، فإنها تشكّل بيئة مثالية لدراسة العلاقة بين الجينات والبيئة، وخصوصا أن كثيرًا من الأمراض المزمنة بالكويت يظهر في سنّ مبكرة وبصورة أكثر شدة مما هو متوقع.
التأسيس لمشروع يدمج مشروع الجينوم مع مشروع الإكسبوسوم من شأنه أن يُحدث نقلة نوعية في فهم وتطبيق الطب الدقيق بالكويت والعالم. فمن خلال هذه المقاربة المزدوجة، يمكن اكتشاف المؤشرات الحيوية الناتجة عن التفاعل بين الجينات والبيئة، وتحديد الأفراد الأكثر عُرضة للأمراض حتى قبل ظهور الأعراض. كما يمكن تصميم تدخلات علاجية وغذائية مخصصة لكل فرد حسب بصمته الوراثية والبيئية، وتطوير سياسات صحية قائمة على أدلة علمية حقيقية تراعي الواقع البيئي للمجتمع.
لا شك في أن إطلاق مشروع الجينوم قد يمثّل خطوة بالغة الأهمية، لكنه سيكون غير مكتمل دون دمج الجانب البيئي.
والكويت، باعتبارها الدولة الوحيدة في الخليج دون مشروع جينوم وطني، تمتلك فرصة نادرة لتبنّي نهج أكثر تطورًا وشمولية، يستفيد من تجارب الدول الأخرى ويتفوق عليها بدمج الإكسبوسوم منذ البداية. إن الوقت مناسب الآن لبناء مشروع وطني متكامل يأخذ بعين الاعتبار الوراثة والبيئة معًا، ويضع الكويت في موقع الريادة بمجال الطب الدقيق في المنطقة.
رسالة
كتابة هذا المقال أعادت إلى ذهني ذكرى أستاذي البروفيسور ديفيد بيسارو، الذي أشرف على دراستي الجامعية في جامعة ولاية أوهايو قبل 20 عاما. لا أنسى كيف شرح لنا في إحدى محاضراته العلاقة المعقّدة بين الجينات والبيئة وتأثيرها على الأمراض، قائلاً: «الجينات تعمّر المسدس، والبيئة تضغط على الزناد».
كل الشكر والتقدير لكل أستاذ ودكتور غرس فينا حب العلم، وكان له دور في تشكيل مسيرتنا الأكاديمية والمهنية.