تقول العرب: «هذا من رابع المستحيلات»، والمعروف عندهم أن المستحيلات ثلاثة: الغول، والعنقاء، والخلّ الوفي.
لكن تأمل هذا القول تجد فيه عُمقاً تربوياً وحِكمة حياتية، فالعرب لم تذكر هذه المستحيلات لتغلق الأبواب، بل لتشير إلى أن ما عداها ممكن، ومتاح، وقابل للتحقيق.
ورغم تحفظي عن الثالثة، فقد لقيت في حياتي من الأوفياء ما يكفي لأن أؤمن بوجود «خلٍّ وفي»، فالمستحيل ليس إلا انعكاس للعجز عن الرؤية، وتبرير للركود، لا قانون كوني لا يُكسر.
وقد أخطأ عنترة بن شداد حين افتتح معلقته بقوله:
هل غادر الشعراء من متردم؟
أم هل عرفت الدار بعد توهم؟
فقد ظنَّ أن الشعر قد نُهب معانيه ولم يُترك له منبر. لكن الشاعر محمود سامي البارودي جاء بعد قرون ليرد على عنترة بنفس البحر والوزن والمعنى، قائلاً:
كم غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم؟!
ليثبت أن المجال لا يُغلق، والطرق لا تنتهي، وأن الوفرة لمن يؤمن بها.
ففي الحياة، مَنْ يؤمن بـ «نُدرة الفرص» يعش متردداً، ومحللاً، ومبرراً، ومَنْ يؤمن بـ «وفرة الإمكانات»، يقتحم، ويجرب، ويغيِّر. وقد صدق الله تعالى إذ قال: «إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
فلا تجعل المستحيل شماعةً لتقاعسك، بل تذكَّر أن مَنْ أراد المجد، لا يرضى بالقليل، كما قال امرؤ القيس:
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشةٍ
كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
ولكنما أسعى إلى مجدٍ مؤثَّلٍ
وقد يدرك المجد المؤثَّلَ أمثالي
ويختمها أبوفراس بقوله الخالد: «لنا الصدر دون العالمين أو القبر».
ثم يردفها صوت الشجاعة من أمام أسوار قلاع الفرنجة: «ومَنْ يخطب الحسناء لم يغلها المهر».
دمتم بود