الأمثلة على هشاشة المناهج التعليمية وغياب الرؤية التربوية المتماسكة لا تُعدّ ولا تُحصى، لكن ما شدّ انتباهي مؤخراً هو مثال وردني من إحدى صديقاتي، فقد سألها ابنها إن كانت تقبل بأن يكذب عليها والده، فأجابته بالنفي، مبررة موقفها بأن الكذب سلوك غير مقبول، وأن الصدق في العلاقات الإنسانية هو قيمة أخلاقية عليا. وكانت الصدمة عندما أكد ابنها أن الكذب مباح متى ما أراد والده إرضاءها (والعكس ليس صحيحاً)، حسب ما ورد في منهج التربية الإسلامية للصف السابع.

هذا مثال يكشف كيف يمكن لطرح غير متّزن أن يُقوّض القيم التي يُفترض أن يرسّخها. في هذا الدرس، يُطلب من طلاب في عمر الثالثة عشرة – وهم في بداية تشكّل وعيهم الأخلاقي – أن يتعلّموا أهمية الصدق وخطورة الكذب، حتى في المزاح. وهي رسالة سامية ومطلوبة. لكن الدرس نفسه يطرح استثناءات ثلاثة يُباح فيها الكذب: في الحرب، ويمارسه الزوج لإرضاء زوجته، وفي الإصلاح بين المتخاصمين. وهذه الجمل تُقدَّم كحقائق مطلقة من دون أي نقاش أو تفكير أو تحليل.

Ad

لست هنا في مقام الاعتراض على فقه الحالات الاستثنائية للكذب، ولكنني أنتقد طريقة الطرح القاطع والخالي من التوضيح، والتي قد تترك أثراً مشوشاً وخطيراً على وعي الطالب. في هذا العمر، يبدأ المراهق محاولة فهم التعقيدات الأخلاقية في الحياة، والتمييز بين ما هو مبدأ ثابت وما هو استثناء مشروط. وعندما يُقدَّم الكذب على أنه «مباح» في بعض الحالات دون شرح فلسفي أو نقاش أخلاقي، تتحول الاستثناءات إلى تبريرات سهلة للتلاعب والتهرب من المسؤولية.

فقد يرى الطالب أن الكذب مبرر طالما كانت النية حسنة، كأن يكذب لتفادي العقاب، أو لإرضاء صديق، أو لحل خلاف عابر. والأسوأ من ذلك، أن يُفهم تبرير «كذب الزوج على زوجته» على أنه إذن بتسويغ الخداع في العلاقات العاطفية، مما يرسّخ نظرة دونية للمرأة، ويُضعف أسس التواصل القائم على الاحترام والمصارحة.

أما اعتبار الكذب وسيلة لحل النزاعات، فيحرم الطالب من تطوير أدوات مهمة مثل الذكاء العاطفي، ومهارات التفاوض، والتعاطف مع وجهات نظر مختلفة. فيتحول الكذب إلى بديل عن التعبير، والتلاعب إلى بديل عن الإصلاح الحقيقي. والأدهى أن مثل هذه الطروحات قد ترسّخ في عقل الطالب أن الأخلاق نسبية تماماً ويمكن تأويلها بحسب المصلحة أو المزاج، مما يؤدي إلى غياب البوصلة القيمية في المستقبل، كما أنها تُضعِف قدرته على بناء حُكم أخلاقي مستقل.

ولنتذكّر أن ما يزرع في المناهج لا يبقى حبيس الفصل الدراسي، بل يتسرب إلى البيوت والمجتمع وساحات التواصل، فيعيد تشكيل نظرة جيل كامل إلى مفاهيم مثل الصدق، والاحترام، والمسؤولية. ولهذا فإن تصميم المناهج يجب ألا يكون مجرد تجميع لنصوص دينية أو معلومات تعليمية، بل عملية تربوية عميقة تُبنى على أسس معرفية وأخلاقية ونفسية مدروسة.

في غياب فلسفة تربوية واضحة، تصبح مراجعة المناهج مجرّد تصحيحات شكلية لا تمسّ جوهر التعليم. والمناهج التي تعالج قضايا أخلاقية بهذا القدر من السطحية لا تزرع الفضيلة، بل تشجع التناقض. فهل نملك الجرأة للانتقال من تلقين الأحكام إلى تعليم التفكير الأخلاقي؟ وهل نؤمن أن القيم لا تُحفظ، بل تُناقش وتُفهم وتُمارس؟ الإجابة عن هذين السؤالين قد تحدد شكل الجيل القادم ومصير منظومة القيم في مجتمعنا.