جلس أحد الأصدقاء معي ذات يوم يشكو من زميل له لا يرد على اتصالاته، وقد أوعز الأمر إلى قلة الأدب ونُكران الجميل، قائلاً بتذمُّر: «أنا من شفته أول مرة، عرفت إن ما فيه خير!».

لكن بعد فترة تبيَّن له أن زميله كان قد سافر لتلقي العلاج خارج البلاد.

Ad

هذا الموقف البسيط يعكس واقعاً أوسع نعيشه مع الآخرين، فالمثل العربي الشائع «الكتاب باين من عنوانه» للأسف يُعد من أصدق الأمثلة الداعمة لسوء الظن، في حين نجد في المقابل المثل الغربي الأكثر إنصافاً: «لا تحكم على الكتاب من غلافه».

أتذكَّر هنا قصة رمزية تُروى كثيراً، لكنها تحمل في طياتها درساً خالداً:

استقلَّ رجلٌ مُسنٌ القطار مع ابنه الشاب، الذي يبلغ من العُمر أربعة وعشرين عاماً، وقد بدا الشاب بصحةٍ جيدة، لكنه كان يتصرَّف بطريقةٍ غير مُعتادة. فبينما كانا جالسين، أخذ الابن ينظر عبر النافذة بفرحٍ طفولي، وهو يصيح بدهشة: «أبي، انظر! الأشجار تُلاحقنا!».

ابتسم الأب ولم يعلِّق.

قريباً منهما، جلس زوجان شابان، وقد راحا يتبادلان النظرات المستغربة والشفقة. فما إن صاح الابن مرة أخرى، قائلاً: «أبي، انظر! السحاب يتحرَّك معنا!»، حتى التفت إليه الزوجان، وسألا الوالد مُستنكرين: «لماذا لا تأخذ ابنك إلى طبيب؟ يبدو أنه يعاني مشكلة عقلية!».

ابتسم الأب بهدوء، وقال: «نحن عائدون الآن من المستشفى. لقد كان ابني ضريراً منذ ولادته، وهذه هي المرة الأولى التي يرى فيها الدنيا».

بُهت الزوجان، وخجلت أعينهما من سرعة الحُكم وسوء الفهم.

إننا كثيراً ما نقع في هذا الفخ، نحكُم على الآخرين من ظاهرهم، أو من موقفٍ عابر، ونسجِّل ضدهم حُكماً قد لا يغفره الواقع ولا الزمان.

كُن حذراً، لا تجعل من سوء الظن طبعاً دائماً، ولا تُسرع في الحُكم على الناس. تمهَّل، تمعَّن، تمسَّك بحُسن الظن، فإن خاب ظنك مرَّةً، نجا قلبك من قسوة اليقين الكاذب مرات.

صدق جبران خليل جبران حين قال:

«ما أجمل أن يكون لديك إنسانٌ يُحسن الظن بك، ويغفر لك إن أخطأت، ويلتمس لك العذر إن أسأت».

فكُن ذلك الإنسان... تكن رحيماً بنفسك قبل غيرك.