في خضم التصعيد العسكري المفاجئ بين إيران وإسرائيل منتصف يونيو 2025، لم تقتصر تداعيات الأزمة على الشأن السياسي أو الأمني فحسب، بل امتدت لتشمل شرايين حيوية من الاقتصاد العالمي، وعلى رأسها الطيران التجاري وأسواق الطاقة. فما إن تسارعت وتيرة استخدام الصواريخ والطائرات المسيَّرة، حتى سارعت منظمة الطيران المدني الدولي إلى إصدار تحذيرات من التحليق في الأجواء الممتدة بين الخليج وشرق المتوسط، وهو ما أدى إلى حالة غير مسبوقة من الإرباك في حركة الملاحة الجوية.

تشير التقارير المتخصصة إلى أنه في غضون 72 ساعة فقط، أُلغيت أو تأخرت أكثر من 500 رحلة جوية في مطارات رئيسية، مثل: دبي، الدوحة، والكويت، والقاهرة، والرياض، مما كبَّد شركات الطيران الكبرى خسائر تشغيلية يومية فادحة قد تصل إلى 25 مليون دولار، بفعل الاضطرابات التشغيلية، وتكاليف التأمين والتحويل.

Ad

وفي الوقت الذي كانت مطارات الشرق الأوسط تواجه شللاً جزئياً، كانت أسواق الطاقة تتأرجح صعوداً على وقع المخاوف من شل الحركة في مضيق هرمز، الذي يمر عبره نسبة كبيرة من إمدادات النفط العالمية، الأمر الذي ينبئ بأن استمرار التهديدات في الخليج قد يرفع الأسعار بنسبة قد تصل إلى 15 في المئة، لا سيما مع تراجع المخزون الاستراتيجي الأميركي، وتأجيل الإنتاج في عدد من المنصات البحرية، وقد يسبِّب تباطؤاً عالمياً يُقدَّر بنصف نقطة مئوية خلال النصف الثاني من العام.

من جانب آخر، بدأت التداعيات تظهر بوضوح في الاقتصادات الصناعية الكبرى، مثل: اليابان، وكوريا الجنوبية، نتيجة الارتفاع المفاجئ في تكلفة الواردات، وتراجع عدد الشحنات العابرة لمضيق هرمز بنسبة ملحوظة.

****

لا يبدو أن المشهد الحالي يقتصر على كونه أزمة عابرة في توقيت حساس، بل يُخشى أن يكون مؤشراً على تحوُّل أعمق في نظرة الفاعلين الدوليين إلى الشرق الأوسط، ليس بوصفه مجرَّد مركز عبور أو خزاناً للطاقة، بل باعتباره منطقة مرتفعة الكلفة الجيوسياسية. فمع كل دورة توتر، تُعيد كبرى الشركات والحكومات الغربية النظر في خرائط الإمداد ومسارات الطيران وخطط الاستثمار، بما يعكس توجهاً خفياً لتقليص الاعتماد على ممرات معرَّضة دوماً للاشتعال.

وإذا كانت الثروات الطبيعية لا تزال تثبّت مكانة الشرق الأوسط على خريطة المصالح الدولية، فإن تكرار الأزمات يُهدد بترسيخ صورة المنطقة كبقعة ملتهبة أكثر منها شريكاً موثوقاً. وبذلك، قد لا يُستبعد أن تسعى بعض القوى الاقتصادية إلى توجيه استثماراتها نحو بيئات أكثر استقراراً، ولو بتكاليف أعلى، تفادياً لمفاجآت تُكبدها مليارات في ساعات.

من هذا المنطلق، يبرز التساؤل المُلح: هل سيبقى الشرق الأوسط محوراً لا يُستغنى عنه في قلب التجارة العالمية، أم يتحوَّل تدريجياً إلى ثقل استراتيجي يُربك الأسواق، ويقض مضاجع المستثمرين؟ وفي غياب ترتيبات أمنية حقيقية تضمن سلامة الممرات الجوية والبحرية، فإن «جغرافيا التوتر» تبدو كأنها تحكم على المنطقة بأن تظل عالقة في دائرة «اقتصاد الأزمات»، إلى أجل غير مسمى!

****

في مواجهة هذا الواقع المتقلِّب، لم يعد كافياً لدول الشرق الأوسط أن تعتمد فقط على موقعها الجغرافي أو ثرواتها الطبيعية لضمان استدامة دورها الاستراتيجي، بل بات ضرورياً أن تبادر إلى بلورة سياسات اقتصادية وأمنية ذكية تواكب تحوُّلات السوق العالمي. أولى الخطوات تتمثل في تنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط والغاز، عبر الاستثمار في قطاعات، مثل: التكنولوجيا الخضراء، والخدمات اللوجستية المتقدمة، والسياحة المستدامة، والتعليم الرقمي، بما يعزز المناعة الاقتصادية في وجه الصدمات الجيوسياسية.

كما تبرز أهمية إقامة شراكات إقليمية في مجال الطاقة والبنية التحتية، تتيح مرونة في خطوط التوريد، وتقلل من الاعتماد على ممرات معرَّضة للخطر. وعلى المستوى السياسي، فإن تفعيل آليات دبلوماسية وقائية بين الدول المتجاورة من شأنه أن يُعيد الطمأنينة للمستثمرين، إضافة إلى أهمية إطلاق مبادرات حقيقة لجذب الاستثمارات طويلة الأمد، ترتكز إلى استقرار تشريعي وشفافية مالية، وهو ما قد يُعيد صياغة صورة المنطقة كمجالٍ واعد، وليس مجرَّد ساحة أزمات.

****

المعادلة واضحة: إما أن تُنتج المنطقة استقرارها، أو تُدار من الخارج باعتبارها بؤرة اضطراب عالمي.