لطالما شكّلت أراضي أملاك الدولة في الكويت محوراً لحوارات تاريخية متعمقة، عكست تعقيدات العلاقة بين التنمية المستدامة والحفاظ على الموارد العامة.

فقد دار الكثير من الجدل والنقاشات بين الجهات المعنية حول كيفية تسوية أوضاع هذه الأراضي بما يراعي مصلحة الدولة والمواطن. وتنوعت الأطروحات والمبادرات على مرّ العقود، إلّا أن التحديات القانونية والإدارية والاقتصادية ظلت حاضرة في المشهد. وتمثّل هذه الحوارات اليوم مرجعا غنيا لفهم السياسات العامة وآليات اتخاذ القرار في الكويت.

Ad

ويأتي هذا المقال في ضوء التطور الأخير، المتمثل بقيام وزارة المالية بتشكيل فريق عمل لتأسيس هيئة مستقلة تُعنى بملف أملاك الدولة المشتت بين الجهات الحكومية، في خطوة إصلاحية تهدف إلى توحيد الجهود وتحقيق المزيد من الفعالية والشفافية في إدارة هذا الملف الحيوي، الأمر الذي انتظرته الكويت طويلاً.

شهدت العديد من الدول، عبر العقود الماضية، تحديات جسيمة في التعامل مع المناطق العشوائية، التي نشأت نتيجة توسّع سكاني غير منظّم، أو بسبب تقاطع المصالح بين الدولة والأفراد في استخدام الأراضي. غير أن بعض التجارب الناجحة - مثل تلك التي في تركيا، ومكة المكرمة، وعدد من بلدان أميركا اللاتينية - تقدّم لنا نماذج قابلة للاجتهاد والاستلهام، خاصة عند النظر في الحالة الكويتية الفريدة المرتبطة بما يُعرف بـ «أملاك الدولة» في المناطق الصناعية والمزارع والجواخير ومناطق الشاليهات البحرية.

أولاً: التجربة التركية... نموذج التحول الحضري المتدرج

في تركيا، وخصوصا في إسطنبول وأنقرة وإزمير، تم التعاطي مع المناطق العشوائية من خلال سياسة تُعرف بالتحول الحضري (Kentsel Dönüşüm). وقد استندت هذه السياسة إلى قانون صدر عام 2012 يسمح بإعادة تخطيط المناطق غير النظامية، ومنح شاغليها - ولو بشكل غير رسمي - فرصًا إمّا بالتملك أو بالتعويض أو بإعادة التوطين في وحدات سكنية حديثة، غالبًا بالشراكة مع القطاع الخاص.

أحد أركان نجاح النموذج التركي هو الاعتراف الضمني بواقع قائم، ثم تقنينه وتطويره تدريجيًا، بدلًا من الهدم الكلي أو الإخلاء القسري. كما استفادت الدولة من إعادة تطوير هذه المناطق تجاريًا، فحققت مردودًا ماليًا يمول المشروع نفسه.

ثانياً: تجربة مكة المكرمة... تنظيم لا يُقصي ولا يُهمل

في مكة المكرمة، التي تضم عددا من أقدم العشوائيات في السعودية، أطلقت الحكومة مشروعا ضخما لتنظيم الأحياء العشوائية مثل النكة، الزهور، الكدوة، وغيرها. وتعامل المشروع مع هذه المناطق ليس كمشكلة فقط، بل كفرصة لتحديث البنية التحتية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحسين جودة الحياة.

وقد تميّز المشروع بـ:

• تقييم عقاري دقيق للأراضي والمباني.

• تعويضات مالية أو سكن بديل لمن يملكون أوراقا قانونية.

• منح المقيمين بشكل غير رسمي فرص تسوية الأوضاع أو الانتقال المدعوم.

تجربة مكة قامت على مبدأ العدالة والاحتواء، لا على الإخلاء القسري، وقد راعت الأبعاد الاجتماعية والدينية والحضرية.

ثالثاً: دروس من أميركا اللاتينية... الاعتراف ثم التمكين

في دول مثل البرازيل وكولومبيا وبيرو، حيث تنتشر «الفافيلا» أو «الباريو»، قامت الحكومات منذ السبعينيات بمشاريع تُعرف بـ «التأهيل الحضري» (Urban Upgrading)، التي تبدأ أولًا بإضفاء الشرعية على السكن القائم عبر منح وثائق تملّك أو حق انتفاع، ثم إدخال البنية التحتية (ماء، كهرباء، صرف صحي)، وأخيرًا تمكين السكان اقتصاديًا عبر مشاريع صغيرة وتدريب.

رابعاً: المقارنة مع أملاك الدولة في الكويت

ما يميز الحالة الكويتية، في الشويخ الصناعية والشاليهات، أنها ليست تعديًا على الدولة بوجه غير رسمي، بل نشأت بموافقة حكومية عبر عقود امتياز أو تراخيص، وبتصاميم ومخططات وافقت عليها بلدية الكويت، وتم توصيل الكهرباء والماء رسميًا، مما يجعل هذه الأراضي رغم كونها من «أملاك الدولة»، حالة قانونية مختلفة جذريًا عن العشوائيات التي قامت بالتعدي أو الزحف السكاني غير المخطط.

إلا أن المشكلة تظهر حين يُراد إعادة هيكلة استخدامات هذه الأراضي، مثل تحويل «الشويخ الصناعية» إلى منطقة استثمارية حديثة، أو إعادة تأهيل الواجهة البحرية. هنا تبرز الحاجة إلى مقاربة واقعية تحفظ حق الدولة في التخطيط الاستراتيجي، وحق المستثمرين والمستخدمين الحاليين في عدم الإقصاء أو الإضرار الجائر.

خامساً: نحو حل كويتي متوازن

واستناداً إلى التجارب المقارنة، يمكن اقتراح نموذج كويتي لتنظيم أملاك الدولة في المناطق الصناعية والشاليهات والمزارع والجواخير، يشمل الخطوات التالية:

1. مسح شامل وتوثيق قانوني لكل العقود والموافقات السابقة، مع تحديد أنواع النشاط والتعديات إن وُجدت.

2. التعاون مع جهات استشارية اقتصادية كجامعة الكويت أو شركات الاستشارات العالمية لتصنيف الممارسات القائمة على أساس اقتصادي والتفريق بين ما هو تعدٍّ لغرض التعدي، وبين ما هو تعدٍّ لغرض تلبية حاجة اقتصادية لم توفر لها الدولة بديلا مناسبا، كما هو حاصل في أعمال التخزين والسياحة الزراعية والسياحة البحرية والبرية.

3. إيجاد نماذج اقتصادية مبتكرة بالتعاون مع الجهات البحثية لاستيعاب الممارسات الحالية كافة، في إطار يحقق أفضل دخل اقتصادي للدولة (ما يعني القطاع العام والخاص)، وليس فقط للميزانية العامة.

4. تحديث العقود إلى صيغ تعاقدية تجارية أو استثمارية جديدة، بشروط تواكب متطلبات التخطيط الحديث، لكن دون الإلغاء المجحف للعقود السابقة.

5. تحويل الانتفاع إلى شراكة، عبر إنشاء منظومات تجارية مبتكرة يكون فيها المستغلون الحاليون شركاء، مع فتح الباب أمام القطاع الخاص، وتحت إشراف الدولة.

6. تحفيز التحول الطوعي، عبر حوافز مالية أو تخطيطية لمن يوافق على تطوير نشاطه أو نقله إلى منطقة بديلة.

7. عدم تكرار الخطأ، من خلال وقف الترخيص لأراضٍ مماثلة مستقبلاً دون إطار قانوني واضح ونهائي.

خاتمة

الحلول الناجحة في تركيا ومكة المكرمة وأميركا اللاتينية تشترك في مبدأ جوهري: الاعتراف بالواقع، ثم تقنينه، ثم تطويره عبر الشراكة لا القسر، وهو ما ينبغي للفريق تبنيه وهو يعيد النظر في أملاك الدولة التي تحولت من مساحات إدارية إلى منظومات اقتصادية واقعية تحتاج إلى إدارة متوازنة.

* وزير الصحة الأسبق