في زمنٍ يعلو صوت الضجيج على صوت الحكمة، يُساء فهم الهدوء كثيراً.

يُنظر إليه على أنه ضعف، أو هروب من المواجهة، أو افتقار للرد، فيما هو في الحقيقة أعلى مراتب القوة الداخلية. الهدوء لا يعني أنك لا تشعر، بل انك قرَّرت أن ترفع عن نفسك عبء التفسير، والرد، والجدل الذي لا طائل منه. الضعف الحقيقي ليس في الصمت، بل في أن تنفلت وتُقاد بردة الفعل، في حين أن الهدوء يحتاج إلى وعي، وضبط، ونُبل لا يتقنه إلا الأقوياء.

Ad

في مجلسٍ عامرٍ بالناس، وقف رجلٌ غاضب يشتم جاره أمام الجميع، صوته يعلو، ووجهه يتلوَّن.

وجاره، كان يُصغي دون أن يرد، كأن الشتائم تمرُّ أمامه مرور الريح.

أحد الحاضرين لم يحتمل الموقف، فالتفت إليه مُستنكراً: «ألا ترد؟ ألا تغضب؟ ألا تقول شيئاً؟!».

ابتسم الجار بهدوء، وقال: «إن كان ما يقوله عني حقاً، فقد وجدت في صمتي اعترافاً. وإن كان باطلاً، فصمتي أكرم لي منه، ومن الرد عليه».

في تلك اللحظة، انقلب المجلس، وسقط صوت الغضب كالصدى البعيد.

هذا الموقف لم يكن ضعفاً، بل قمة القوة. فليس كل مَنْ سكت عاجزاً، ولا كل مَنْ احتد شجاعاً.

الصوت العالي لا يُقنع، والشتيمة لا ترفع، والغضب لا يُبرِز موقفاً بقدر ما يكشف هشاشة صاحبه.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المعاني ببلاغة حين قال الله تعالى: «وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً».

فذلك السلام لم يكن انسحاباً، بل ارتقاء.

ويكفي أن نتأمل قول الإمام الشافعي: «إذا نطق السفيه فلا تجبه، فخيرٌ من إجابته السكوت».

أما مارك توين فقال: «الهدوء هو أعظم تعبير عن القوة».

فاختر أن تكون قوياً بصمتك، رفيعاً بحلمك، نبيلاً حين يشتد الموقف.

فالعقل الهادئ أكثر اتزاناً من ألف لسان غاضب، والهدوء لا يصرخ، لكنه يُربك.