بعد ما يزيد على الخمسة والأربعين عاماً من الدراسات الدستورية المتعددة والمتعمقة، والتي تخللها إصدار ما يفوق 60 بحثاً علمياً محكماً والعديد من الكتب التخصصية في هذا المجال من العلوم الدستورية، وفي ضوء دراستي وبحثي وتحليلي لجميع أنواع أنظمة الحكم السابقة والمعاصرة، وآخرها كتابي عن «دولة المدينة المدنية»، الصادر في ديسمبر 2024 - يناير 2025، فإنني قد توصلت إلى قناعة علمية متلازمة مع القناعة العملية والواقعية، خلاصتها أن النظام الرئاسي الموسّع الصلاحيات هو الحل الأمثل لنظام الحكم بالدولة المعاصرة، مع وجود صلاحيات محجوزة لرئيس الدولة منفرداً، وقبالتها صلاحيات محجوزة للبرلمان أو مجلس الشورى أو أهل العقد والحل، أياً كانت الأسماء، إلى جوار صلاحيات محجوزة على نحو مشترك بين رأس الدولة والبرلمان.
ولعل دولة النموذج في نظام الحكم في الإسلام، ممثلة بدولة المدينة المدنية، تشكل ملامح جوهرية من نموذج نظام الحكم الذي يصلح للدولة المعاصرة.
وسأعرض في هذه المقالة بعض تفاصيل نظريتي التي تشكلت وتبلورت من خلال خبرتي العلمية ومتابعاتي وبعض الإسهامات العملية في نطاق عمل الحكومة أو في نطاق البرلمان! وكذلك تلك التي تشكّلت من تعقبي لأنظمة الحكم ودراستها في إطارها النظري أو بممارساتها العملية، وفحصها ونقدها علمياً وعملياً، وعليه سأتولى عرضاً موجزاً لهذه النظرية في نقاط متتالية:
* تواجه الدولة المعاصرة تحديات متعددة ومعقدة ومتشابكة داخلياً وخارجياً، الأمر الذي يستدعي وجود حالة من الديناميكية المرنة في اتخاذ القرار والإجراءات التنفيذية المباشرة، وهي حالة مفقودة في النظم البرلمانية بصفة عامة.
* فاعلية وجدوى فكرة الصلاحيات التنفيذية والتشريعية المباشرة بيد رئيس الدولة أثبتت جدواها في العديد من الدول، رغم تفاوت نماذجها، ومن ذلك صلاحية الخليفة في دولة المدينة المدنية، ومنها صلاحيات الرئيس في النظام الفرنسي والتركي، وإلى حد معين بالنظام الأميركي.
* ينبغي ألا تغل يد رئيس الدولة بالعديد من الإجراءات، كما في بعض الأنظمة مثل الفرنسي، وينبغي ألا تكون مطلقة أو شبه مطلقة في أحوال كثيرة كما في النظام الأميركي، أو في أحوال واضحة كما في النظام التركي.
* يلزم أن تكون الرقابة اللاحقة للبرلمان والقضاء آلية معتمدة في هذا النموذج، لكنها ليست فورية، بل متراخية تتم بعد مضي فترة زمنية لا تقل عن شهر من تاريخ العمل التنفيذي أو التشريعي ولا تزيد على ثلاثة أشهر، بخيارات الإقرار أو الإلغاء أو الإقرار المشروط أو التعديل المنفي بالحفاظ على الغاية مع تحقيق توازن بالضمانات، وينبغي استمزاج رأي متخذ القرار بالتعديل.
* وجود حزمة من الصلاحيات التي تتخذ بصورة مشتركة بين الرئيس والبرلمان، ثم يتاح للرئيس اتخاذها منفرداً عند فشل الممارسة المشتركة، بمحاولتين متتاليتين أو بمضي شهر دون القدرة على اتخاذ ذلك الأمر.
* تبني نظام المجلسين، ومنح الرئيس سعة في تحصيل مصادقة أحد المجلسين، في الأمور المشتركة أو تلك التي لا تندرج بصلاحيات أي سلطة بصورة منفردة.
* إعادة صياغة الأنظمة الملكية لتتوافق مع هذه النظرية، سواء كان ذلك بعدم جعل سلطات رأس الدولة مطلقة أو تمكينه من العمل مع البرلمان أو أحد المجلسين، في صلاحيات محجوزة محددة.
* إعادة صياغة النظم البرلمانية والرئاسية بنظام يقترب من هذا النموذج العملي والمتطور ذاتياً.
* أظن، في تقديري، ومن واقع تحليلي ودراستي للموضوع أن نظام الحكم في دولة المدينة المدنية والتي أقامها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسار عليها الخلفاء الراشدون في عهودهم، تمدنا بالنموذج المنطقي والواقعي لهذا النظام الحيوي والمتطور ذاتياً.
* الموضوع محل دراسة علمية تفصيلية أعكف على وضعها وبلورة هذه النظرية، التي ستعزز الدولة المعاصرة وتسعفها على أداء مهامها بفعالية وتمكّن.