في الجزء الأول من هذا المقال استعرضتُ الكتاب الذي وجَّهه أمين سر مجلس الخدمة المدنية ورئيس ديوان الخدمة المدنية لوزير الدولة لشؤون البلدية وزير الدولة لشؤون الإسكان، والذي طلب فيه الإحاطة بأن مجلس الخدمة المدنية قد قرر في اجتماعه رقم 10 لسنة 2025 بتاريخ 15/ 5/ 2025 الموافقة على تفويض ديوان الخدمة المدنية باتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ اعتماد الهياكل التنظيمية بكل الجهات الحكومية وفقاً للنموذج المُحدَّد من مجلس الخدمة المدنية، إضافة إلى بعض الملاحظات الأولية على النموذج.
وفي هذا الجزء سنستكمل بعض الملاحظات على النموذج المُقترح من مجلس الخدمة المدنية، وفي نهاية المقال سيتم اقتراح نموذج لإعادة هيكلة الجهاز الحكومي بمنظور استراتيجي.
أولاً: ملاحظات رئيسة على نموذج مجلس الخدمة المدنية:
1- إن المدة الزمنية (الأسبوعين)، التي أُعطيت للوزارات والجهات الحكومية لتنفيذ وتطبيق النموذج المُقترح من قِبل مجلس الخدمة المدنية قصيرة جداً لمعظم الوزارات ذات العدد والحجم الكبير، مثل: وزارة التربية، ووزارة الصحة، ووزارة الكهرباء والطاقة المتجددة.
2- ويتساءل بعض المختصين في مجال الإدارة والهياكل التنظيمية عن الأسس العلمية والتنظيمية والإدارية التي تم على أساسها اعتماد نموذج مجلس الخدمة المدنية!
3- كان من المُفترض من النموذح المُقترح من مجلس الخدمة المدنية أن يكون مرناً، ويراعي طبيعة عمل الجهات الحكومية، وأن يكون أكثر مرونة ومراعاة لطبيعة عمل الجهات والهيئات والمؤسسات الحكومية.
وبالتالي، فإن اقتراح نموذج وحيد لكل الجهات الحكومية فيه قصور وعدم دراية وخبرة بطبيعة عمل الجهاز الحكومي، وتعدُّد الجهات والأجهزة والمؤسسات الحكومية، وتنوُّع أنشطتها وخدماتها، فضلاً عن اختلافها من حيث الحجم والتخصص والنشاط.
4- كان المتوقع أن يقترح القائمون على مجلس وديوان الخدمة المدنية تقليص عدد الجهات الحكومية وترشيقها (Doing more with Less)، والاستفادة من التقدُّم التكنولوجي والتحوُّل الرقمي (Digital Transformation) في الحد من الهياكل التنظيمية المتضخمة والتشابك في الاختصاصات، بدلاً من تقليص عدد الوكلاء المساعدين في الجهاز الحكومي فقط.
5- تم النظر للنموذج المقترح من قِبل مجلس الخدمة المدنية على أنه صالح وملائم لكل الوزارات والجهات الحكومية، وفي ذلك تجاهل وجهل لاختلاف المهام والأنشطة والاختصاصات المتعددة والمتنوعة للجهات الحكومية.
6- يرى البعض أن مَنْ اقترح نموذج مجلس الخدمة المدنية لهيكلة الجهاز الحكومي تنقصه الخبرة العلمية والعملية بطبيعة الجهاز الحكومي ومعايير العمل المؤسسي وتنوُّع وتعدُّد التخصصات والأعباء الوظيفية في الجهة الحكومية الواحدة، فضلاً عن الاختلاف في نوعية وحجم الأجهزة والجهات الحكومية.
7- إن جل ما أخشاه هو أن يؤدي النموذج المُقترح من مجلس الخدمة المدنية إلى زيادة التعقيد لعمل بعض الجهات الحكومية، والحد من المرونة المطلوبة لإنجاز المهام والمسؤوليات والأعباء الوظيفية لوحدات الجهاز الحكومي.
8- كُنت أتمنى أن يكون هذا النموذج المُقترح من مجلس الخدمة المدنية مبنياً على رؤية وخطة استراتيجية واضحة ومتفق عليها من جميع الأطراف.
ثانياً: إعادة هيكلة الجهاز الحكومي بمنظور استراتيجي:
1- إن المنظور الاستراتيجي ليس مجرَّد رؤية للمستقبل، بل أداة محورية يقود من خلالها القائد مسار الجهاز الحكومي نحو تحقيق أهدافه، ورسم الاتجاهات، وتجميع وتوجيه وتنسيق الموارد المالية والبشرية، لضمان توازن بين الواقع والطموح. ويُعد المنظور الاستراتيجي العمود الفقري لتوجيه الأداء العام والكفاءة التشغيلية لأجهزة الدولة ومؤسساتها.
وبالتالي يمكن للقادة الحكوميين الذين يمتلكون منظوراً استراتيجياً قوياً التكيُّف بشكل أسرع مع التغييرات والأحداث المُتسارعة، والمحافظة على الاستقرار المؤسسي، حيث إن القيادة الحكومية الرزينة، والتي تمتلك رؤية استراتيجية واضحة، يمكنها أن تحقق نتائج أفضل في الأداء، مقارنة مع تلك التي تفتقر إلى هذه الرؤية، حيث يساعد هذا التوجُّه الجهات الحكومية في استشراف الفرص المستقبلية، واقتناصها، ومواجهة التحديات، علاوة على أنه يعزز من قُدرتها على التكيُّف مع التحوُّلات السريعة. كما يُسهم المنظور الاستراتيجي في تحفيز الابتكار، من خلال تحديد الفرص المستقبلية والموارد اللازمة للاستثمار فيها. وعليه، فإن الجهات الحكومية التي تتبنَّى منظوراً استراتيجياً طويل الأمد تتمتع بقدرة أكبر على تبنِّي ابتكارات جديدة وفعَّالة، مقارنة بتلك التي تتبع التفكير التقليدي، حيث إن المنظور الاستراتيجي، من خلال وضوح الرؤية الاستراتيجية وتحديد القيم الجوهرية، يمثِّل أساساً لنجاح الاستدامة، ويُسهم بشكل فعَّال في التكيُّف مع التغييرات، ويعزز الابتكار.
يتبع...
ودمتم سالمين