البابا فرنسيس: الرأسمالية ليست شيطانيّة ما لم نؤلّهها

نشر في 20-10-2015
آخر تحديث 20-10-2015 | 00:01
• {فلنصغِ إلى العلماء مدركين أن الخالق أكبر من معارفنا}
يحافظ البابا فرنسيس على تواضعه وبساطته بعد سنتين ونصف السنة من انتخابه. في مقر سانتا مارتا الواقع في قلب الفاتيكان حيث يعمل ويعيش ويحتفل بالقداس الإلهي، استقبل البابا أسرة {باري ماتش}. يرأس البابا أكثر من مليار شخص مُعمَّد حول العالم. أينما مرّ، تثير كلماته وجاذبيته الحماسة في نفوس الجميع. يعتبر نفسه حتى الآن كاهناً بسيطاً ويسعى إلى احتضان المطلقين الذين تزوجوا مجدداً وتسهيل إجراءات إبطال الزواج، ويحاول بذلك جمع البشر ومواجهة التحديات التي يفرضها المجتمع المتبدّل. وهنا مقتطفات من المقابلة.

كيف حالك أيها  الأب الأقدس؟     

بخير، لكنّ رحلات السفر متعبة جداً. ومع انعقاد سينودس الأساقفة راهناً، لا يبقى لي وقت طويل.

عدت لتوك من رحلة طويلة. لماذا لم تزر سابقاً الولايات المتحدة؟

كانت رحلاتي السابقة ترتبط باجتماعات مع المسؤولين عن الرهبانيات الخاصة بالمبتدئين ورؤساء كليات الفسلفة واللاهوت. لم تُعقَد أيٌّ من تلك الاجتماعات في الولايات المتحدة. لهذا السبب، لم أحصل على فرصة زيارة هذا البلد سابقاً.

في 18 أكتوبر، خلال سينودس العائلة، أعلنتَ قداسة والد ووالدة القديسة تريزا من ليزيو. ما سبب اختيارهما؟

كان لويس وزيلي مارتان، والدا القديسة تريزا الطفل يسوع، ثنائياً مبشّراً وقد كانت حياتهما شهادة لجمال الإيمان بيسوع داخل منزلهما وخارجه. من المعروف أن عائلة مارتان كانت مضيافة وكانت تفتح منزلها وقلبها للجميع. في تلك الحقبة، سادت ثقافة برجوازية تحتقر الفقراء لكنهما، مع بناتهما الخمس، خصصا الوقت والطاقة والمال لمساعدة المحتاجين. لا شك أنهما نموذج مثالي للقداسة والحياة الزوجية.

لماذا تكرّم أنت، الأرجنتيني، واحدة من القديسات الفرنسيات الأكثر شهرة؟    

هي واحدة من أبرز القديسين الذين يكلموننا عن رحمة الله: كيف يعتني الله بنا ويمسك بيدنا ويسمح لنا بتجاوز مصاعب الحياة بسهولة شرط أن نستسلم كلياً لمشيئته ونسمح له بتغييرنا. فهمت تريزا الصغيرة على مر حياتها أن الحب التصالحي الذي قدّمه يسوع هو الذي يقرِّب أعضاء كنيسته. هذا ما تعلّمتُه من تريزا من ليزيو. أحب كلماتها أيضاً ضد {روح الفضول} والنميمة. في مناسبات كثيرة أطلب منها، هي التي سمحت للرب بمساعدتها ونقلها إلى عالمه، أن تساعدني في مشكلة أواجهها أو مسألة لا أجيد التعامل معها أو رحلة يجب أن أقوم بها. لذا أطلب منها أن تحلّ المشكلة وأن ترسل لي إشارات معينة وقد تلقيتُها في مناسبات كثيرة...

هل دفعك حب القديس فرنسيس الأسيزي للطبيعة والبيئة إلى اختيار اسمه؟

لم أفكر بالموضوع مسبقاً. ما حرّكني في تلك اللحظة ليست رسالة القديس فرنسيس حول الخليقة بل طريقة عيشه للفقر. خلال انعقاد الكونكلاف، عند بلوغ عدد الأصوات اللازمة لانتخاب البابا، كان صديقي الكردينال كلاوديو هومس يجلس بقربي وقد عانقني بقوة وقال لي ألا أنسى الفقراء. فكرتُ حينها بالعالم الغارق في الحروب وأعمال العنف وفكّرتُ بأن مسيرة القديس فرنسيس الأسيزي تشهد على أنه كان رجل سلام. في المنشور البابوي حول البيئة {كن مُسبِّحاً}، حاولتُ أن أثبت الروابط العميقة بين الالتزام بالقضاء على الفقر والرعاية بالناس. يجب أن نترك لأولادنا وأحفادنا أرضاً قابلة للحياة وأن نلتزم ببناء سلام حقيقي وعادل في العالم.

أنت البابا في عصرٍ يواجه مشاكل مناخية هائلة. ما هي رسالتك لـ}مؤتمر باريس الدولي بشأن المناخ}؟    

يميل المسيحي عموماً إلى النزعة الواقعية وليس الكارثية. مع ذلك، لا يمكن إخفاء هذه الحقيقة الواضحة: يستحيل أن يستمر النظام العالمي الراهن. أتمنى من كل قلبي أن تساهم هذه القمة في طرح خيارات ملموسة ومشتركة تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة على المدى الطويل. وآمل أن تساهم في اقتراح أنماط تنموية جديدة كي يتمكن أكبر عدد من الرجال والنساء والأولاد الذين يعانون الجوع والاستغلال والحروب والبطالة من العيش بكرامة، وكي يتكثف العمل للحد من الاستغلال الذي يتعرض له كوكبنا. بيتنا المشترك ملوث ولا يكف وضعه عن التدهور. نحتاج إلى التزام من الجميع. يجب أن نحمي الإنسان من الدمار الذاتي.

كيف يمكن تحقيق ذلك؟

يجب أن تتوقف البشرية عن تأليه المال وأن تعيد التركيز على الإنسان وكرامته والمصلحة العامة ومستقبل الأجيال التي ستسكن على الأرض بعدنا، وإلا سيضطر أحفادنا للعيش فوق تراكمات من الأنقاض والقذارات. يجب أن نطور ونحمي النعمة التي حصلنا عليها بدل تعزيز الاستغلال بطريقة غير مسؤولة. ويجب أن نعتني بالأشخاص الذين لا يملكون الحد الأدنى من أساسيات الحياة ونبدأ بتطبيق الإصلاحات البنيوية التي تضمن نشوء عالم أكثر عدلاً. ويجب أن نرفض الأنانية والجشع كي نعيش جميعاً حياةً أفضل.

أعلنت وكالة {ناسا} في شهر يوليو الماضي عن اكتشاف كوكب بحجم الأرض اسمه {كبلر 452 بي}. هل يمكن أن نجد كائنات عاقلة في مكان آخر من الكون؟

لا أعرف بماذا أجيبك: حتى الآن، لطالما استثنت المعارف العلمية وجود آثار لكائنات عاقلة أخرى في الكون. لكن حتى اكتشاف قارة أميركا، لم يتصور أحد وجودها وسرعان ما تبين أنها موجودة فعلاً! في مطلق الأحوال، يجب أن نسمع ما يقوله العلماء لكن من دون أن ننسى أنّ الخالق أكبر بكثير من معارفنا. الأمر المؤكد هو أن الكون الذي نعيش فيه ليس وليدة صدفة أو فوضى بل إنه انعكاس لذكاء إله أحبّنا وخلقنا وأراد وجودنا ولن يتركنا وحدنا مطلقاً. الأمر المؤكد هو أن يسوع المسيح، ابن الله، تجسد ومات على الصليب ليخلصنا من خطايانا نحن البشر ثم قام وغلب الموت.

هل تظن أن بلداناً مثل فرنسا التي تضم عدداً من المسيحيين تستطيع يوماً مساعدة هذه الجماعات الآتية من الشرق الأوسط والمهددة من النزعة الإسلامية المتطرفة للعودة إلى ديارها؟

تحصل أمام عيوننا جميعاً مأساة إنسانية تتطلب منا التحرك. بالنسبة إلينا نحن المسيحيين، يبقى كلام المسيح الذي دعانا إلى رؤيته في الفقراء والغرباء الذين يطلبون المساعدة وصية ثابتة. علّمنا أنّ كل مبادرة تضامن تجاههم هي مبادرة تجاهه. لكن يتجاهل سؤالك موضوعاً مهماً آخر: لا يمكن أن نتفرّج على هذه الجماعات التي تُعتبر اليوم من الأقليات في الشرق الأوسط وهي تُجبَر على التخلي عن منازلها وأراضيها وأعمالها اليومية. هؤلاء المسيحيون مواطنون لهم كامل حقوقهم في بلدانهم وهم يشبهون رسل يسوع المسيح منذ ألفَي سنة ويشكّلون جزءاً من ثقافة وتاريخ شعوبهم. أمام هذا الوضع الطارئ، من واجبنا الإنساني والمسيحي أن نتحرك. لكن لا يمكن أن ننسى العوامل التي سببت هذا الوضع وندّعي أنها غير موجودة. لنتساءل عما يجعل هؤلاء الناس كلهم يهربون وما يسبّب هذا الكم من الحروب وأعمال العنف. يجب ألا ننسى من يزرع الكره والعنف ومن يرسّخ الحروب مثل مهرّبي الأسلحة. ويجب ألا ننسى نفاق أصحاب السلطة في هذا العالم، فهم يتكلمون عن السلام علناً لكنهم يبيعون الأسلحة سراً.

عدا تقديم المساعدة الفورية، ما الذي يمكن فعله  للاجئين؟

لا يمكن أن نحاول حل هذه المأساة إلا عبر مقاربة الوضع على المدى البعيد، والتحرك لإرساء السلام، والعمل جدياً على معالجة أسباب الفقر البنيوية، والالتزام ببناء نماذج النمو الاقتصادي التي تجعل الإنسان محوراً لها وليس المال، واحترام كرامة جميع الرجال والنساء والأولاد وكبار السن في مختلف الظروف.

هل تعتبر الرأسمالية والأرباح كلمات شيطانية؟

الرأسمالية ليست شيطانية ما لم نؤلهها وما دامت تبقى مجرد أدوات. لكن إذا طغى الطموح المطلق لكسب المال، وإذا أصبحت المصلحة العامة وكرامة البشر في المرتبة الثانية أو الثالثة، وإذا بدأت الأموال والأرباح تستعبدنا، وإذا كان الجشع ركيزة لنظامنا الاجتماعي والاقتصادي، يعني ذلك أن مجتمعاتنا تتجه إلى الانهيار.

 يجب ألا يصبح الإنسان والخليقة جمعاء في خدمة المال: عواقب ما يحصل أصبحت على مرأى من الجميع!

سيبدأ يوبيل الرحمة في 8 ديسمبر. من أين خطرت لك هذه الفكرة؟

منذ عهد يوحنا الحادي عشر، زاد تركيز الكنيسة على موضوع الرحمة. خلال حبرية القديس يوحنا بولس الثاني، اتضح هذا التركيز بقوة أكبر عبر مرسوم {الغنيّ بالمراحم} وعبر تحديد عيد الرحمة الإلهية (في الأحد الثاني بعد الفصح) وتقديس فوستين كوفالسكا. من خلال متابعة هذه المسيرة والتفكير والصلاة، فكرتُ أنه من الإيجابي إعلان سنة مقدسة استثنائية تحت عنوان يوبيل الرحمة.

هل يمكن أن تساهم الحماسة المدهشة التي تبديها في حل الأزمة العالمية؟

في هذه المسائل الحساسة، تبقى مبادرات البابا والكرسي الرسولي مستقلة عن التعاطف أو الحماسة التي يبديها بعض الشخصيات في لحظة معينة. نحن نسعى إلى تشجيع الجميع على حل الصراعات وعقد السلام عن طريق الحوار ونبحث بلا كلل عن طرق سلمية وقابلة للتفاوض لحل الأزمات والصراعات. لا يسعى الكرسي الرسولي إلى الدفاع عن مصالحه الخاصة على الساحة الدولية بل إنه يستعمل مختلف الوسائل الممكنة لتشجيع جميع الأطراف على التلاقي والتحاور وإطلاق عملية السلام واحترام حقوق الإنسان.

من خلال ذهابي إلى بلدان مثل ألبانيا والبوسنة والهرسك، حاولتُ أن أدعم نماذج التعايش والتعاون بين الرجال والنساء المنتمين إلى ديانات مختلفة كي يتمكنوا من تجاوز الجروح التي لا تزال مفتوحة نتيجة المآسي الأخيرة. لا أخطط للمشاريع ولا أهتم بالاستراتيجيات أو بالسياسة الدولية: في ظروف متعددة، أدرك أن الكنيسة تؤدي دور {صوت صارخ في البرية}.

لكني أعتقد أن الإيمان بالإنجيل هو الذي يفرض علينا أن نكون بناة للجسور بدل الجدران. يجب ألا يبالغ أحد في تقدير دور البابا والكرسي الرسولي. ما حصل للتو بين الولايات المتحدة وكوبا خير مثال على ذلك: حاولنا بكل بساطة أن نعزز الرغبة في التحاور بين المسؤولين من البلدين، والأهم من ذلك أننا صلينا على هذه النية.

ماذا تفعل كي تحافظ على بساطتك اليسوعية بعد إقامة قداس في مانيلا أمام 7 ملايين مؤمن ومئات ملايين المشاهدين؟

حين يحتفل كاهن بالقداس الإلهي، سيكون حاضراً طبعاً أمام المؤمنين ولكنه يحضر في المقام الأول أمام الرب. وكلما وقفنا أمام حشود الناس، يجب أن ندرك مدى صغرنا وأن نتذكر أننا مجرد {خدّام متواضعين} كما يطلب منا يسوع. كل يوم، أطلب نعمة أن أعكس حضور المسيح وأن أشهد على رحمته حين يغمرنا بين يديه. لذا في كل مرة أسمع فيها عبارة {يحيا البابا!}، أدعو المؤمنين كي يهتفوا {يحيا يسوع!}. حين كان ألبينو لوتشياني [البابا يوحنا بولس الأول مستقبلاً] كردينالاً، راح يفكر حين يسمع التصفيق الذي يتلقاه: {هل تظنون أن الأتان التي وصل عليها يسوع إلى أورشليم ظنت أن هتافات {هوشعنا} كانت موجهة لها؟}. لذا يتعهد البابا والأساقفة والكهنة بإتمام مهمّتهم من خلال تسليط الضوء على {البطل} الحقيقي من دون أن ينسوا أنّ هتافات {هوشعنا} اليوم قد تليها عبارة {اصلبه} غداً!

إرث يسوع

• ما هو أغلى إرث تلقّيته من رفقة يسوع المسيح؟

الفطنة من مقر سانت إينياس لليسوعيين، السعي اليومي إلى التعرف إلى الرب واتباع طريقه عن قرب، محاولة تنفيذ جميع الأعمال اليومية، حتى الأقل أهمية منها، بقلب مفتوح على الله وعلى الآخرين، محاولة تكوين الرؤية التي حملها يسوع عن الواقع وتطبيق تعاليمه يوماً بعد يوم واستعمالها في العلاقات مع الآخرين.

• تعرف طبعاً أغنية بيرانجيه، كاتب فرنسي من القرن التاسع عشر، عن اليسوعيين: {أيها الرجال السود، من أين تخرجون؟/ نحن نخرج من باطن الأرض/ نصفنا ثعالب ونصفنا ذئاب/ قاعدتنا غامضة/ نحن أبناء لويولا}.

إنها لجرأة كبيرة أن تُكتَب هذه الكلمات... (يضحك البابا فرنسيس).

• منذ أكثر من قرنين، طُرد اليسوعيون من الصين. هل اختفت الصين اليوم من وجدانك؟

أبداً! لا! الصين في قلبي. لا تزال هنا (يضرب البابا على صدره) وستبقى دوماً.

• هل تتخيل أنك تستطيع الذهاب إلى مطعم بيتزا في روما أو تستقل الحافلة بثياب كاهن؟

لم أتخلَّ بالكامل عن لباس الكاهن الأسود تحت الرداء الأبيض! أحب طبعاً أن أتمكن من التنزه في شوارع روما، فهي مدينة جميلة جداً. لطالما كنت كاهناً شعبياً وقد حصلت أهم لقاءات يسوع وعظاته في الشوارع. وأحب طبعاً أن أذهب لتناول البيتزا الشهية مع الأصدقاء، لكني أعلم أن الأمر ليس سهلاً بل إنه مستحيل. الأمر الوحيد الذي لا أفتقده هو التواصل مع الناس. أقابل أعداداً هائلة من الناس أكثر مما كنت أفعل في بوينس أيرس وهذا الوضع يفرحني كثيراً! حين أغمر المؤمنين، أعرف أن يسوع نفسه يغمرني بين ذراعيه.

back to top