خذوا القيادة من النساء! *

نشر في 04-10-2021
آخر تحديث 04-10-2021 | 00:08
 خولة مطر بلد صغير في رأس أوروبا، أي أقصى شماله خرج من صراعات ونزاعات وفقر ولا يملك أي ثروات في باطن أرضه في حين تسهم الطبيعة في المزيد من معاناة أهله، فالشتاء طويل طويل وشديد القسوة حتى أن معظم ساعات اليوم تكون في ظلمة الليل، مع كل ذلك استطاع في سنوات أن يتخطى كثيراً من الصعاب، وأن يكون الأكثر تطوراً بين دول العالم في عدد النساء الوزيرات، بل إن أحزابه الرئيسة الخمسة تترأسها نساء وكثيرات منهن شابات: رئيسة وزرائه امرأة بل "صبية" حيث لا تتجاوز الثانية والثلاثين، ومعظم الوزيرات تحت الأربعين، بلد تقودها وتحركها النساء من الشابات بل إن نسبة مساهمة النساء في الاقتصاد هي الأعلى.

كلما أصغيت لهن ازددت إعجابا بهذا البلد المنفي في شمال الشمال ليس من حيث مشاركة النساء في صناعة القرار ومستقبل الوطن بل لأن معظمهن يمتلكن قناعات مختلفة، ومع ذلك استطعن أن يخلقن حكومة من خمسة أحزاب بألوان وتفاصيل سياسية مختلفة، فقبل رئيسة الوزراء الحالية كانت هناك امرأة أخرى أيضا لكنها قدمت من النقابات العمالية، وتنحت سريعا لكنها لا تزال تسهم في العمل السياسي على مستوى وطنها فنلندا، وكذلك تنقل خبرتها إلى العالم عبر طلبها للمشاركة في العديد من المجالس الاستشارية.

تقول إحداهن إننا لسنا متفقين على كل الأمور في إدارة البلاد لكننا بحسن القيادات النسائية الخمس استطعنا أن نصل إلى توافق هو في حقيقة الأمر اتفاق لما هو في مصلحة الوطن لا مصلحة الحزب أو التنظيم أو العائلة أو الشريحة الحاكمة سمها ما تشاء، والأكثر إلهاما في هذه التجربة ما تسمعه من هذه المجموعة من النساء التي تمضي ببلدها إلى فضاءات أوسع من مساحته الجغرافية، فحين تعرف أن رئيسة الوزراء سانا مارين ذات الرابعة والثلاثين هي أول من استطاع الوصول إلى الجامعة من أفراد عائلتها، وما لبثت وهي في العشرينيات أن رشحت لشغل منصب وزيرة المواصلات ثم تسمعها تقول بكثير من التواضع "أنا لا أنظر إلى منصبي أو عمري أو جنسي ولا أفكر في هذا الأمر أبدا" أنا فقط أعمل مع كثيرات غيري للنهوض بأجيالنا القادمة والمضي ببلدنا نحو وضع اقتصادي واجتماعي أفضل، حين تسمعها تردد ذلك وهي مندهشة من انبهار متحدثاتها، تتصور الوضع في عاصمة عربية مع رئيس للوزراء عربي ولا تستطيع أن تمنع نفسك من الضحك حتى القهقهة المغمسة بدمع سخرية الأقدار والمقارنة.

قبل سانا مارين كانت هناك رئيستان للوزراء كل واحدة بقصة مختلفة، وكل واحدة قادمة من خلفية بعيدة عن الأخرى، تجلس المرأة الأكبر سنا، قد تكون في عقدها الخامس كمساعدة لرئيسة الوزراء الشابة تمنحها كثيراً من خبرتها دون منّة ولا تشفٍّ، بل بكثير من السلاسة والبساطة التي تشبه الماء، تتوالى النساء بقصص وحكايات كلها مؤثرة، بل ملهمة لمن يحتفل بهن عند الموافقة على أن تقود المرأة السيارة في القرن الحادي والعشرين أو أن يسمح لها بالسكن مستقلة عن أهلها أو أن تتولى منصباً بكثير من الجد والتعب والسنوات العجاف، بل هي مؤلمة حد الوجع عند مقارنة الحوارات بين النساء القياديات في فنلندا والنساء في أوطاننا من حيث تكرار الاختلاف على المساحات المحددة للمرأة، وكيف أن عليها ألا تتخطاها وعن أدوارها التي يجب أن تحافظ عليها لبقاء "البشرية والإنسانية"، حيث يفرض الرجال وكثير من النساء أيضا مقاييس محددة وفضاءات مغلقة "تكرموا" بالسماح للنساء للعيش في حدودها، أسوار من العتمة وتفسيرات مغلوطة أو متعمدة لبقاء الحال على ما هي عليه.

بعد اللقاء مع رئيسة الوزراء الشابة وزميلاتها في قيادة فنلندا تعود الواحدة منا إلى الواقع بعض الرسائل والحملات لفك أسر "المعلقات" من نساء البحرين مثلا وغيرهن كثر كثر وأخريات سجينات لأنهن رفضن عنف أزواجهن أو تحملن المسؤوليات كاملة فدفعن أثمانا باهظة، وأخريات يقال لهن إن من لا تستطيع التوفيق بين عملها ومهماتها الأساسية في الحياة، حسب قولهم، فعليها أن تضحي، نساء أوطاننا يرضعن دورهن حتى المتمردة منهن مطلوب منها أن تضحي، في حين يتربع الرجال في المقاهي المكتظة يمضون أوقات فراغ دائمة!

تقول تلك الشابة الجالسة بقربي "حسرة علينا حتى بعد شهاداتي وخبرتي ما زالوا يقولون هذه الوظيفة لا تناسب النساء"، وكثير من الحواجز، في حين هناك أوطان أثبتت أن قيادة المرأة للوطن ربما هي خلاص له، وقد تكون خلاصه الوحيد! وتمضي وهي تحدث نفسها أو كأنها تفعل ذلك الله يطعم كل امرأة في وطني بنتي أو حفيدتي إن لم يكن أنا.

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية.

● د. خولة مطر

back to top