ديمنشا

نشر في 16-04-2021
آخر تحديث 16-04-2021 | 00:20
 حسن العيسى اعترض أنتوني على ابنته الكبرى حين استأجرت عاملة رعاية تساعده في كهولته، إذ قال لها: لست بحاجة لها لترعاني، أستطيع أن أقوم بكل أموري دون حاجة لأحد، ثم إن هذه العاملة سرقت ساعتي فقمت بطردها.

أين ساعتي الآن؟ فتحت ابنته باب الحمام وأحضرت له ساعته... سكت، ثم عاد مكرراً: إن حالي بخير في منزلي... جميل أنك تزورينني كل يوم.

اللقطة تنتقل ويتغير المكان والزمان، أنتوني يفاجأ بشخص غريب يجلس في صالته... يسأله: ماذا تفعل في بيتي؟ وكيف دخلت؟ يرد الجالس: هذا بيتي أنا، وأنت ساكن عندي، وأنا زوج ابنتك. صمت أنتوني مستغرباً ماذا يجري في عالمه وأين هو...؟ تنتقل الكاميرا من مكان لآخر، في كل مكان يجد أنتوني نفسه غريباً في المكان والزمان، ويسأل من جديد عن ساعته... في النهاية يجد نفسه في مصحة لرعاية الكهول... لا يوجد حدث يومي استقر في الذاكرة غير مشهد صورة ابنته الصغرى وهي تودع الدنيا بعد حادث مؤلم... وقد كان يتصور أنها تحيا معه، وقامت برسم لوحة كان يعلقها في صالون المنزل... صدمة وألم... حزن وضياع.

كانت تلك لقطات من فيلم "الأب" أنتوني (لعب الدور بجدارة أنتوني هوبكنز) يعاني من "ديمنشا" الخرف، يتصور أنه لا يعاني من علة ما وإنما العلة في الآخرين، في الزمان - المكان القاسي. لا يريد أن يعترف بحقيقة مرض كهولته، فهو لا يدرك تلاشي الوعي عنده بالزمن وأحداثه... لا يدرك الفرق بين الحلم والحقيقة... "الديمنشا" هي موت بطيء مؤلم، تنسي صاحبها وجود الآخرين، وتمحو من فكره تبدل الزمن وتغير الأحوال... مرض يصيب الكهول والعجائز بدرجات مختلفة... قد يبدأ بنسيان مسائل ضئيلة، ثم تكبر وتتسع تلك القضايا حتى تنسى ماضيك ووجودك.

ديمنشا الكهولة هي قضاء الله وقدره، أبدع هوبكنز ومخرج الفيلم في تصويرها الإنساني، نتقبلها آخر الأمر فنحن بشر نتعرض لصدمات دائمة... نسيانها أمر جيد للبشر في شبابهم حتى تستمر حياتهم، لكن حين تصيبنا في وقت الشيخوخة لا تتركنا بغير التحسر على زمن مضى أيام الشباب والجمال، ثم ننسى حتى هذه.

ماذا جرى لنا نحن أبناء وبنات نهاية الأربعينيات والخمسينيات (بيبي بومرز) في السنين الأخيرة غير الصدمات السياسية وتراكم كثبان القلق والضياع على أجيالنا؟ ندرك أنه بالطريق ستأتي مهرولة صدمات اقتصادية مروعة... ستزيد من حالة الديمنشا... هل نحن من يعاني منها الآن أم هي حكومتنا وحكوماتنا الكهلة التي مازالت تعتقد أنها في ريعان صباها...؟ يا رب اشفها من الديمنشا، لعلها تدرك أن الزمن تغير، يا سلطة... هل تدركين ذلك وتذكرين أنك لم تعودي كما كنت... ولم نعد بدورنا كما كنا؟!

حسن العيسى

back to top