«الأشياء تنادينا... يا ميّاس»

نشر في 17-02-2021
آخر تحديث 17-02-2021 | 00:01
 طالب الرفاعي حينما بدأت الكتابة في منتصف السبعينيات، كانت القصة القصيرة هي ميدان الفن الأجمل الذي يتبارى كتّاب العالم لتقديم قصصهم فيه. وكان أنطون تشيخوف - Anton Chekhov يقود الكتيبة الروسية الأعظم للقصة، وقد كتب قصصاً خالدة تشبه الإنسان وتشبه الواقع. وبسبب من طبيعة الحياة السياسية العربية وقت ذاك، وسطوة الأحزاب اليسارية على المشهد الإبداعي، في القصة والقصيدة والرواية والمسرح والتشكيل والسينما، فقد كان فعل تشيخوف، ربما الأكثر تأثيراً في ساحة القصة القصيرة العربية، ومن هذا المنظار يمكن قراءة قصص كتيبة مؤسسي القصة القصيرة العربية: يوسف إدريس، ويحيى حقي، وزكريا تامر، وأحمد بوزفور، ومحمد خضير، وكثيرون جاؤوا بعدهم، ويسير بعضهم على الأثر.

الكاتب الإسباني خوان خوسيه ميّاس - Juan Jose Millas، المولود في فالنسيا بإسبانيا عام 1946 هو قائد كتيبة بامتياز، وهو ذاك النوع من الكتّاب الذين يصعب تقليدهم! فالكتّاب مدارس متباينة، بمعنى أن هناك كتّاباً معلمين يمكن تقليدهم والكتابة وفق مسطرتهم، وتحديداً للكاتب الشاب، ولحين يعثر على صوته وبصمته في الكتابة. والمثال العربي الساطع لذلك قصص يوسف إدريس. وهناك كتّاب يستعصون على التقليد، وتبقى كتاباتهم حكراً عليهم، ومؤكد أن زكريا تامر، وكذلك المغربي أحمد بوزفور هما المثال الأوضح في مدارس القصة القصيرة العربية.

الإسباني ميّاس يلتقط تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة، وغير المرئية، والمنثورة في العيش الإنساني في كل مكان، ومن ثم يستخدم مواده الأولية، بدءاً بالواقع، مروراً بالخيال الجامح، وعبوراً على الفنتازيا، والغرائبية ليكتب قصة "ميّاسية" لا تشبه إلا نفسها، وليدع القارئ في نهاية كل قصة يتوقف للحظات، طالت أو قصرت، متسائلاً: كيف دارت هذه الفكرة في رأس الرجل، وكيف صنع لها ثوبها الفني الآسر.

ميّاس، بالنسبة لكثير من القرّاء المحترفين هو عسل رحيق متعة القراءة، وبالنسبة لكاتب القصة، هو سؤال مفتوح على العيش والمخيلة والكتابة. فمياس الذي كرّس حياته للكتابة، كتابة القصة والرواية والعمود الصحافي، وأنتج ما يزيد على الثلاثين كتاباً، وتُرجم إلى معظم لغات العالم، وصار يُطلق عليه "كافكا الإسباني"، هو كاتب مختلف وفتح لمن يريد الهروب من الملل ورتابة الكتابة، ومضايقات "أعوام كورونا". من بين كتب ميّاس المترجمة إلى العربية، رواية "أحمق وميت وابن حرام وغير مرئي"، ورواية "هكذا كانت الوحدة" ورواية "العالم"، ومجموعة "الأشياء تنادينا" الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ضمن سلسلة "إبداعات عالمية" عدد 425، يونيو 2018، وهو بقدر شهرته الإسبانية المدوّية، وشهرته العالمية الكبيرة لم ينل حظاً كبيراً على مائدة الترجمة العربية. أتقدم برجاء للزملاء المترجمين والناشرين العرب، بالحرص على ترجمة هذا الكاتب، هذا الميّاس، فلديه من الموهبة الإبداعية الشيء المتفجّر، ونحن هنا في شتى أقطار الوطن العربي، والمطحونون بالهم اليومي، والعيش اليومي، والمضايقات اليومية، أحوج ما نكون لتنفس شيء من عطر الكتابة المغايرة، الكتابة التي تمتلك عيناً سحرية تخترق قشرة الواقع الهشة، وتكتب عن وجع الحياة، وحب الحياة، وآمال الحياة الأكبر!

في كل قطر عربي، صار لدينا كتّاب شباب كثر، كتّاب ينشر كل منهم كتاباً أو كتابين ويتوقف بعد أن يتلقى ضربة الخيبة، وهذا لأن عدداً كبيراً منهم يكتب متكئاً على بعض قراءات عابرة شكّلت مخيلته، وشيء من موهبته، والواقع أن الكتابة الحقة تحتاج لقراءات مستمرة لا تتوقف، ولوعي جديد ومتجدد بالواقع المعيش، وتحتاج قبل هذا وذاك لصبر وأناة قبل الذهاب لمقبرة النشر.

كتابات خوان خوسية ميّاس تصلح تماماً لأن تكون مدرسة لمن يريد أن يكون له شأن في الكتابة، وهي في ذلك كأي كتابات إنسانية مبدعة شكّلت ثروة البشرية الأدبية المشتركة، فكيف بشاب يريد لنفسه أن يكون كاتباً في القادم من الأيام، ولا يخوض في بحر هذه الثروة، ويأكل ويشرب من بستانها الأطيب!

طالب الرفاعي

back to top