فهيد العجمي: المساس باستقلال القضاء تعد على الدستور

أكد في دراسة قانونية مخالفة قانون مخاصمة القضاء للمادة 163

نشر في 07-07-2020
آخر تحديث 07-07-2020 | 00:04
القاضي في المحكمة الكلية د. فهيد العجمي
القاضي في المحكمة الكلية د. فهيد العجمي
أكد القاضي في المحكمة الكلية د. فهيد العجمي أن استقلال القضاء والضمانات لرجاله من المواضيع ذات الأهمية الدستورية، لافتاً الى أن أي مساس بهما يعد مساساً بالدستور.

وقال العجمي في دراسة قانونية حول مقترحات إقرار قانون لمخاصمة القضاء إن المشرع العادي ليس له دور في تكريس استقلال القضاء أو ضمانات القضاة وإنما يجب عليه ضمان تنفيذ هذا النص الدستوري دون الانتقاص منه، وفيما يلي نص الدراسة:
كثر الحديث عن قانون مخاصمة القضاة وأعضاء النيابة العامة، وقد كتبت هذا الرأي لأضع أمام عيني القارئ بعض الشبهات الدستورية، التي لا تتعدى حدود الشبهات، بالإضافة الى بيان بعض المشكلات القانونية، التي لا ترقى لدرجة الشبهة الدستورية، وقد تظهر من خلال التطبيق العملي لنصوص المقترح.

القسم الأول: الشبهات الدستورية

تتعدد الشبهات الدستورية حول المشروع محل الدراسة ونرتب بعضها بإيجاز وفق الآتي:

أولا: مخالفة النص الدستوري بشكل مباشر في المادة 163 من الدستور.

تنص المادة 163 من الدستور على أنه: «لا سلطان لأي جهة على القاضي في قضائه، ولا يجوز بحال التدخل في سير العدالة، ويكفل القانون استقلال القضاء، ويبين ضمانات القضاة والأحكام الخاصة بهم وأحوال عدم قابليتهم للعزل».

والسلطان في اللغة يعني القوة والنفوذ والسيطرة، وفي التفسير البسيط للنص السالف، فمعنى «لا سلطان على القاضي» لا يعني التدخل وتوجيه سير العدالة فقط بل أشمل من ذلك، فيجب أن يطمئن القاضي أنه لا تدخل في قضائه في الحاضر والمستقبل ولا تأثير عليه بشتى أنواع التأثير، وهذه أيضاً من أهم ضمانات القضاة واستقلال القضاء.

ويترتب على نص المادة 163 من الدستور نتيجتان مهمتان، الأولى أن استقلال القضاء وضمانات القضاة تعتبر مواضيع ذات أهمية دستورية، وأي مساس بها يعد مساساً بالدستور. والنتيجة الثانية أن المشرع العادي ليس له دور في تكريس استقلال القضاء أو ضمانات القضاة بل يجب عليه ضمان تنفيذ هذا النص الدستوري دون الانتقاص منه بإصدار التشريعات اللازمة، وهذا واجب دستوري على عاتقه.

وبالنظر للمادة 305 من الاقتراح محل الدراسة، فإنها تنص على أنه: «تكون خزانة الدولة مسؤولة عن تنفيذ ما يحكم به على المخاصم من تعويضات بسبب أي من هذه الأفعال، ولها حق الرجوع عليه».

وهذه المادة السالفة في ظاهرها ضمانة للقضاة، حيث إن ما قد يحكم به من تعويض على القاضي يدفع من خزينة الدولة، إلا أن هذه الضمانة تنهار مع آخر ما نصت عليه تلك المادة من حق الدولة في الرجوع على القاضي المحكوم عليه، بما دفعته للمدعي من تعويض.

ومؤدى ما سبق أنه وفق المادة المقترحة فإن أموال القضاة الخاصة مهددة بالرجوع عليها من الدولة، وأموال القاضي هنا مهددة في شقين، الشق الأول بالرجوع على أملاكه الحاضرة، والشق الثاني بالرجوع على مرتب القاضي واقتطاع جزء منه لسداد ما يتم الرجوع عليه فيه، مما يعني أن راتب القاضي مهدد وما يملكه مهدد كذلك، وذلك من أهم الضمانات.

كما أن النص السالف ينزل القاضي منزلة التابع للدولة، وهنا المقصود بالدولة السلطة التنفيذية.

ومن جهة أخرى، فإن إعطاء المشرع السلطة التقديرية للدولة في الرجوع يعطيها سلطاناً على القاضي ونفوذاً دون معيار محدد أو ضوابط، وهذا النص بعمومه يخل باستقلال القضاء، ويجعله تابعاً للسلطة التنفيذية.

قد يطول الشرح في هذه المسألة، ويكفينا منها ما سلف ببيان هدر استقلال القضاء وتهديد ضمانات القضاة، مما يشكل شبهة مخالفة المادة 163 من الدستور.

ثانياً: الإخلال بمبدأ المساواة

يجد مبدأ المساواة تكريسه في نص المادة السابعة من الدستور، وقد أكدت المحكمة الدستورية هذا المبدأ في العديد من أحكامها، ويقصد بالمساواة ما يكون بين المتماثلين في المراكز القانونية.

ولعل في قصر الاقتراح محل الدراسة المخاصمة على أعضاء النيابة العامة دون أعضاء الإدارة العامة للتحقيقات إخلالاً بمبدأ المساواة، علاوة على أن الإدارة العامة للتحقيقات في عملها وما تقوم به من أعمال التحقيق والتصرف والادعاء في الجنح لا شك أنه عمل قضائي، وفي رأينا أن الإدارة العامة للتحقيقات شعبة أصيلة من شعب القضاء، ويتساوى المحققون مع نظرائهم في النيابة العامة، ولا يتسع المجال هنا للولوج في شبهة الوضع غير الدستوري لهذه الإدارة من الناحية الإدارية.

ثالثاً: الإخلال بالحق في الأمان المنصوص عليه في المادة 34 من الدستور

تنص المادة 34 من الدستور في فقرتها الثانية على أنه: «ويحظر إيذاء المتهم جسمانياً أو معنوياً».

ويعد الحق في الأمان من أهم ضمانات الحرية الشخصية المنصوص عليها في الدستور بالمادة 30، ومن أهم عناصر الحق في الأمان عدم التأثير على المتهم مادياً أو معنوياً، وعلى ذلك تؤكد المذكرة التفسيرية للدستور في بيانها لعناصر وضمانات الحرية الشخصية.

وسبق أن بينّا أن المادة 305 من مقترح المخاصمة تجيز للدولة الرجوع على القاضي أو عضو النيابة بما تدفعه من تعويض للمتضرر، وفي ذات المقترح تنص المادة 311 على أن المحكمة «إذا قضت بصحة المخاصمة حكمت ببطلان التصرف موضوع المخاصمة وبالتعويضات على المخاصم، وذلك دون إخلال بالمسؤولية الجزائية والتأديبية».

ووفق منطق ذلك النص، قد يعقب دعوى المخاصمة تقديم المحكوم عليه للمحاكمة الجنائية باعتبار لفظي الغش والتدليس يدلان على سلوك ذات دلالة جنائية، حيث إن مقترح المخاصمة نص على جوازها في ثلاثة مواضع كما نصت الفقرة الأولى من المادة 305 من المقترح، وهي الغش والتدليس والخطأ المهني الجسيم.

وهنا نجد أن القاضي أو عضو النيابة إذا قدم للمحاكمة الجنائية وما يسبقها من تحقيق من الجهات المختصة، يكون متهماً قد حكم عليه بالتعويض سلفاً وقامت خزينة الدولة بسداد ذلك التعويض وهي لها سلطة الرجوع عليه بما سددته من تعويض متى شاءت وهذا مثار أذى معنوي ومادي على متهم لم تتوافر له الضمانة المنصوص عليها في المادة 34 من الدستور.

رابعاً: الانحراف التشريعي في مجمل نصوص مقترح المخاصمة

يعد الانحراف التشريعي أحد أهم أسباب عدم دستورية التشريعات وهو سبب للتوسع في الرقابة القضائية على دستورية التشريعات وعندما تنظر المحاكم الدستورية في الانحراف التشريعي يعد ذلك تطوراً في فقه القاضي الدستوري. ويتعلق الانحراف التشريعي بالغاية من التشريع، وهو مشابه لركن أو شرط الغاية في القرار الإداري وهي المصلحة العامة.

ومفهوم المصلحة العامة ليس واحداً في كل التشريعات، فقد يتعدد بحسب نوع التشريع. وبالنظر لمقترح قانون المخاصمة محل الدراسة فلابد أن تكون الغاية منه الحفاظ على حقوق المتقاضين والحفاظ على شرف ونزاهة القضاء كما نصت المادة 162 من الدستور.

ويكون الحفاظ على حقوق المتقاضين من خلال الحكم لهم بطلب التعويض ورفع الظلم عنهم وإبطال الإجراء أو الحكم الجائر، ويكون الحفاظ على شرف ونزاهة القضاء من خلال وضع الضمانات اللازمة للمخاصمة وضمان عزل المحكوم عليه في دعوى المخاصمة.

وفي مجمل نصوص مقترح قانون المخاصمة نجد أنه وضع جزءاً من الضمانات للمتقاضين منها التعويض لكن الضمان الأهم للمتقاضي وهو وقف أو إلغاء ما صدر عليه من حكم وخصوصاً إذا كان نهائياً أو باتاً، فقد نصت المادة 311 على الحكم ببطلان التصرف موضوع المخاصمة، وهذا نص غير واضح ويفقد التشريع غايته في حماية المتقاضين. فمعنى التصرف يختلف عن معنى الحكم النهائي أو البات. وكذلك غير واضح في المقترح مصير القاضي أو عضو النيابة عند الحكم برفض المخاصمة. وكان لابد أن توضع لهما ضمانة نشر حكم رفض المخاصمة حتى تتحقق الغاية من التشريع.

القسم الثاني: المشكلات القانونية

ومن خلال نظرة سريعة على مقترح قانون المخاصمة محل الدراسة، تبرز لنا الكثير من المشكلات العملية، وهي لا ترقى لدرجة الشبهة الدستورية، بل تعوق تطبيق مقترح المخاصمة وتجعله غير ذي جدوى في عدة مواضع. وهذه المشكلات من الصعب حصرها، وهناك من تطرق لها، وسوف أوجز بعضها على النحو التالي:

أولاً: من حيث تطبيق المخاصمة على أعضاء النيابة العامة

يعلم المختصون أن جهاز النيابة العامة جهاز رئاسي، ولا يعتبر وكيل النيابة مستقلاً بقراره عن السلطات الرئاسية العليا سواء من النائب العام أو المحامين العامين، وعند رفع الدعوى للمحكمة فإن أوراقها يجب أن تعتمد من النائب العام أو المحامي، وكذلك قرارات حفظ القضايا، وهنا في حال تم مخاصمة وكيل النيابة فهل يتم اختصام الجهات الرئاسية في النيابة أم لا؟

أعتقد ان هذه المشكلة لم يتطرق لها مقترح قانون المخاصمة، وسوف تترك للاجتهاد القضائي. وكان الأجدى بالمشرع حسم هذا الأمر.

ثانياً: في حال ثبوت خطأ مهني جسيم على قاضٍ من قضاة المحكمة الكلية وتأييد حكمه في «الاستئناف» و«التمييز» فهل تشمل المخاصمة مَن صادق على الحكم من قضاة الاستئناف والتمييز أم فقط قاضي المحكمة الكلية؟

هنا نجد أن مقترح قانون المخاصمة لم يتطرق لهذه المشكلة، وهو قصور واضح في التشريع.

ثالثاً: نص مقترح قانون المخاصمة ينطبق على جميع القضاة ولم يستثنى أحداً، مما يعني أنه ينطبق على أعضاء المحكمة الدستورية وهي محكمة خاصة بموجب قانون خاص ولم يبين المقترح أي طريق خاص لمخاصمة أعضائها، وكان الأوجب أن يبين القانون طريقاً خاصاً لاختصام أعضاء المحكمة الدستورية لأنه في حال غياب عضو ومعه الاحتياط لابد أن يعين عضو جديد بمرسوم أميري وبعد الاقتراع السري لمجلس القضاء، وهو ما يخلق فراغاً كبيراً في حال اختصام جميع أعضاء المحكمة الدستورية، وهم في أغلبيتهم أعضاء في مجلس القضاء.

رابعاً: يتبين من مقترح قانون المخاصمة في المادة 305 أن المخاصمة تكون عند غش أو تدليس أو خطأ مهني جسيم، وهنا يثور التساؤل عن طبيعة المحاكمة في حال المخاصمة بسبب الغش والتدليس، وهما سلوكان يدلان على نية إجرامية وفي توجيههما إتهام واضح للمخاصم، مما يدل على أن الشق الجنائي يطغى على هذين الفعلين وثبوتهما يدخل المخاصم في حكم قانون الجزاء وفي دائرة التجريم، فهنا هل يجوز للقاضي التمسك بالحصانة التي منحها له القانون؟ وإذا تمسك بالحصانة ما هو دور المحكمة التي رفعت أمامها دعوى المخاصمة هل توقف الدعوى وتطلب رفع الحصانة من مجلس القضاء؟

أعتقد أن هذه المشكلة تحتاج إلى تفصيل تشريعي ومعالجة واضحة.

خامساً: من ميزات هذا المقترح أنه يعد تطوراً تشريعياً نحو الحرص على شرف ونزاهة القضاء، ولكن في تفاصيل هذا المقترح نجد أنه يحرص على محاسبة القاضي فقط في حال ثبوت الغش أو التدليس أو الخطأ المهني الجسيم، لكن القانون غير متوازن في حال رفض الدعوى وثبوت عدم الغش والتدليس والخطأ المهني الجسيم، فنجد أن المشرع - وهو توجه محمود - رسم طريقاً خاصاً ومختصراً لمن يريد مخاصمة القضاة أو أعضاء النيابة، ورسم طريقاً لسداد التعويض، وبالمقابل لم يرسم أي طريق معاكس في حال رفض دعوى المخاصمة واكتفى فقط في المادة 311 بذكر أن المحكمة تقضي بالتعويضات إن كان لها وجه، وهو ما يعني أن القاضي أو عضو النيابة يتم إدخاله في خصومة ويرد له اعتباره في التعويض بالطرق العادية وفق القواعد العامة ولم يفترض قانون المخاصمة في الخصم ثبوت الخطأ أو إساءة حق التقاضي، وفي هذا تغليب لمصلحة طرف دون الآخر.

سادساً: كان الأجدى بالمشرع أن يختار لفظاً أنسب من لفظ المخاصمة، مثل لفظ المسؤولية المدنية، وهو لفظ أنسب من حيث مدلولاته، وأفضل لمخاطبة السلطة القضائية، فلا يصح أن يصف المشرع السلطة القضائية بالمخاصمة، في حين أن الدستور يصفها بالشرف والنزاهة، وفي هذا المقام يبرز لنا ما نص عليه قانون تنظيم القضاء في تأديب القضاة وهو لفظ غير مناسب وكان الأنسب النص على المسؤولية الإدارية للقضاة.

المادة 313 والانحراف عن الغاية السامية

ذكر العجمي: أن نص المادة 313 من مقترح المخاصمة يهدم ما سبقه من مواد، ويجعل ذلك المقترح ينحرف عن الغاية السامية، حيث نصت تلك المادة على أنه: «تسقط دعوى المخاصمة بمضي سنة من تاريخ صدور التصرف موضوع المخاصمة أو من تاريخ علم المدعي بوقوع الغش أو التدليس أو الخطأ المهني أيهما أقرب».

وتابع: ويفهم من هذا النص أن من يراد مخاصمته يتحصن ضد المخاصمة بمضي سنة من تاريخ غشه أو تدليسه دون رفع دعوى المخاصمة، ومن الممكن أن يمارس عمله في القضاء أو النيابة. وهذا النص يهدم الثقة العامة بالقضاء ويتعارض مع شرف ونزاهة القضاء، وهي أمور توازي وقد تفوق أهميتها حرمة الأموال العامة التي سبق أن نص المشرع على عدم انقضاء أو سقوط الدعوى الجزائية في المادة «21 مكرر» من قانون حماية الأموال العامة، أو ما جاء في تعديل قانون الجزاء في باب جرائم الرشوة واستغلال النفوذ في المادة 52 من أنه لا تبدأ المدة المسقطة للدعوى الجزائية إلا من تاريخ انتهاء الوظيفة، وهنا تتبين غاية المشرع في حماية الوظيفة العامة.

وأردف: ومما سبق لا نجد في نصوص مقترح قانون المخاصمة وفق ما سبق ذكره ما يهدف إلى صون شرف ونزاهة القضاة، وهي غايات نص عليها الدستور، وهو ما يشكل انحرافاً تشريعياً واضحاً.

شبهات ومشكلات

قال العجمي: بعد تعرضنا لمقترح قانون بشأن تعديل بعض أحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية بإضافة مواد تتعلق بمخاصمة القضاة وأعضاء النيابة العامة، نخلص إلى أن ذلك المقترح يصمه بعض الشبهات الدستورية، وقد يحدث بعض المشكلات القانونية، وهو ما يستحسن معه مراجعته لمزيد من البحث والدراسة والتدقيق من الناحية الدستورية والقانونية وضبط الصياغة التشريعية.

المقترح مشوب بالانحراف التشريعي في مجمل نصوصه

هل المخاصمة تشمل من صادق على الحكم من قضاة «الاستئناف» و«التمييز» أم قاضي «الكلية»؟
back to top