الأوبئة والشعور بالذعر

نشر في 12-02-2020
آخر تحديث 12-02-2020 | 00:00
في سباق التسلح مع مسببات الأمراض لا يمكن أن يكون هناك سلام نهائي، والسؤال الوحيد هو ما إذا كنا سنقاتل بشكل جيد أو سيئ، لأن القتال السيئ يعني أننا سنسمح لمسببات الأمراض بالتسبب باضطرابات دورية ضخمة؟
 بروجيكت سنديكيت عادة ما يستسلم البشر كل بضع سنوات لهستيريا جماعية تتعلق باحتمالية تفشي وباء على مستوى العالم، وفي هذا القرن فقط لدينا (سارس) و(اتش1 ن1) و(ميرس) و(زيكا) والآن فيروس (كورونا) وكلها ولدّت ردود فعل مبالغا فيها مقارنة بالتأثير الفعلي للمرض كما تبين لاحقاً. إن تفشي سارس سنة 2002-2003 في الصين (وهو أيضا فيروس كورونا ومن المرجح أنه انتقل من الخفافيش للبشر)، أصاب 8000 شخص وتسبب في وفيات تقل عن 800 شخص، ولكن مهما يكن من أمر فقد تسبب في خسائر تقدر بأربعين مليار دولار أميركي بسبب خسارة النشاط الاقتصادي، وذلك نظرا لإغلاق الحدود ووقف السفر وتعطيل الأعمال التجارية وتكاليف الرعاية الصحية الطارئة.

إن ردود الأفعال تلك مفهومة، فاحتمالية انتقال مرض معدٍ لأولادنا تؤدي الى تفعيل غريزة البقاء القديمة، إن الطب الحديث والأنظمة الصحية خلقت وهم أنه أصبح لدينا تحكما بيولوجيا كاملا بالنسبة لقدرنا الجماعي، وعلى الرغم من أن ترابط العالم الحديث قد ساهم في تسريع معدل ظهور وانتشار مسببات الأمراض فإن هناك أسبابا جيدة للشعور بالخوف من الأمراض المعدية الجديدة.

وطبقا لتقديرات تحالف ابتكارات التأهب للأوبئة فإن أي مسبب للأمراض معدٍ جداً، وفيه درجة عالية من السمية، وينتقل جواً وبشكل مشابه للإنفلونزا الإسبانية سنة 1918، ويمكن أن يقتل نحو 33 مليون إنسان حول العالم خلال ستة أشهر فقط.

لكن مهما يكن من أمر فإن إثارة المخاوف بشكل متعمد وردود الأفعال القاسية لكل تفشٍ لمرض ما سيكون له آثار عكسية، فنحن نعتبر من الأنواع البيولوجيه التي تعيش مع الكائنات الحية الأخرى، والتي يمكن أن تشكل خطراً علينا في بعض الأحيان، وتتفوق علينا بمزايا تطورية من حيث الأعداد الهائلة ومعدلات الطفرة. إن أقوى سلاح في حوزتنا ضد ذلك التهديد هو ذكاؤنا، وبفضل العلوم والتقنية الحديثة وقدرتنا على التصرف الجماعي فنحن بالفعل لدينا الأدوات اللازمة للوقاية وإدارة الأوبئة ذات الطابع العالمي واحتوائها، وعوضا عن التخبط في كل مرة يفاجئنا فيها أحد مسببات الأمراض، يجب علينا أن نستخدم الموارد والتنظيم والابتكار نفسها والتي نطبقها لبناء وإدارة مقدراتنا العسكرية.

نحن بحاجة على وجه الخصوص إلى مقاربة من ثلاثة محاور:

أولا، يجب أن نستثمر في العلوم والتكنولوجيا.

إن قدراتنا العسكرية الحالية هي نتيجة لاستثمارات تصل قيمتها إلى تريلوينات من الدولارات في الأبحاث والتطوير، لكننا نستثمر جزءاً لا يكاد يذكر من تلك الموارد في التطوير السريع للقاحات والمضادات الحيوية والتشخيص من أجل مكافحة مسببات الأمراض.

إن التقدم في البيولوجيا يسمح لنا أن نفهم الرمز الجيني لمسبب جديد من مسببات الأمراض وقدراته المتعلقة بالطفرات، حيث نستطيع الآن التلاعب في نظام المناعة من أجل مكافحة المرض والتطوير السريع لعلاجات وتشخيص أكثر فعالية، وإن لقاحات (آر إن إيه) الجديدة، على سبيل المثال، يمكن أن تبرمج خلايانا من أجل عمل بروتينات تستطيع إنذار النظام المناعي من أجل تطوير مضادات حيوية ضد المرض، مما يعني تحويل أجسادنا إلى مصانع للقاحات.

إن النظرة المستقبلية تستوجب توسيع نطاق عمل منظمات الأبحاث مثل وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة الأميركية، وهيئة البحث والتطوير الطبي الحيوي، التي تقوم بالفعل بتمويل برامج لمكافحة الإرهاب الحيوي، وغيرها من التهديدات البيولوجية، وذلك لدعم المزيد من الأبحاث فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الأوبئة.

المحور الثاني، الاستعداد الاستراتيجي:

فنحن في المجتمعات الحديثة نثق كثيرا بالقوات المسلحة في بلادنا لأننا نقدر عاليا الموظفين العموميين والجنود الملتزمين الذين هم دائما في حالة يقظة وتأهب من أجل التصدي لأي تهديدات للأمن القومي، وفي حين أن مؤسسات الصحة العامة والأبحاث العلمية لدينا مليئة بمستويات مماثلة من الموهبة فإنهم يتلقون دعما حكوميا أقل بكثير. لقد أغلقت إدارة الرئيس دونالد ترامب سنة 2018 وحدة مجلس الأمن القومي الأميركي لتنسيق كيفية التعامل مع الأوبئة، كما أوقفت التمويل عن ذراع مراكز مكافحة الأمراض الذي يراقب الأوبئة ويستعد لها، ولكن الضرر الأكبر هو قيام تلك الإدارة بالتشوية العلني لسمعة العلوم، مما يؤدي إلى تآكل ثقة الناس في الخبرة العلمية والطبية.

لو نظرنا إلى سيناريو تتعرض بموجبه الولايات المتحدة الأميركية لهجوم من بلد آخر، فإننا لن نتوقع أن يعلن وزير الدفاع بشكل مفاجئ أن الحكومة وردا على الهجوم ستصنع بسرعة قاذفات شبح جديدة من الصفر، في حين تخطط للهجوم المعاكس، فالفكرة سخيفة لكنها تعكس بشكل دقيق استجابتنا الحالية للتهديدات البيولوجية.

وإن النهج الأفضل هو الإشادة بالخدمات المقدمة من العاملين في المجال الصحي والعلماء، وذلك نظرا للخدمات التي يقدمونها وإنشاء بنية تحتية لتطوير واستخدام تقنيات الصحة في حالات الطوارئ، والقيام بشكل استباقي بتمويل المؤسسات المكلفة بالتعامل مع الأوبئة، وكخطوة أولى يجب على الحكومة الأميركية إعادة فتح وحدة مجلس الأمن القومي مع تعيين شخصية متخصصة بالأوبئة مع التمويل الكامل للوكالات المسؤولة عن إدارة التهديد بما في ذلك مراكز مكافحة الأمراض ووزارة الأمن الداخلي والمؤسسات الصحية الوطنية.

المحور الثالث، رد عالمي منسق:

على الرغم من تناقض ذلك مع فكرة ترامب عن "أميركا أولا" فإن من الواضح أن وجود استجابة متعددة الأطراف للأوبئة سيخدم المصالح الوطنية الأميركية، وإن أميركا بحاجة لقيادة ما يتعلق بالقضايا التي يكون للتعاون بشأنها مزايا تتفوق على السياسات على المستوى الوطني، ويجب على الولايات المتحدة الأميركية دعم الآليات لتحديد ومراقبة مسببات الأمراض الناشئة والتنسيق بشأن قوة مهام من العاملين الصحيين، يمكن نشرها بشكل فوري في المواقع التي تتعرض للأوبئة، وإنشاء تسهيلات تمويل جديدة (مثل التأمين العالمي ضد الأوبئة) والتي يمكن أن تحشد بسرعة الموارد من أجل الاستجابة الطارئة بالإضافة إلى تطوير وتخزين اللقاحات.

إن الخطوة الأولى في هذا الخصوص هي قيام الحكومات بزيادة التمويل لتحالف ابتكارات التأهب للأوبئة، والذي تم إنشاؤه بعد وباء إيبولا سنة 2014، وذلك من أجل تطوير اللقاحات واستخدامها، وإن إجمالي التمويل الأولي للوكالة المقدم من تحالف للحكومات والمؤسسات وصل إلى 500 مليون دولار أميركي فقط، أو نحو نصف تكلفة قاذفة شبح واحدة، علما أن ميزانية الوكالة يجب أن تكون أكبر من ذلك بكثير. في سباق التسلح مع مسببات الأمراض لا يمكن أن يكون هناك سلام نهائي، والسؤال الوحيد هو ما إذا كنا سنقاتل بشكل جيد أو سيئ، لأن القتال السيئ يعني أننا سنسمح لمسببات الأمراض بالتسبب باضطرابات دورية ضخمة، وفرض أعباء ضخمة على شكل خسارة الإنتاجية الاقتصادية؟ وإن القتال الجيد يعني الاستثمار بشكل مناسب في العلوم والتقنية وتمويل الأشخاص المناسبين والبنية التحتية لتحسين التأهب الاستراتيجي وتولي مهام القيادة للاستجابة العالمية المنسقة.

كلها مسألة وقت قبل أن نجد أنفسنا نواجه مسبب أمراض قاتلة بحق، وقادرة على قتل أعداد كبيرة جدا من البشر تزيد على أعداد القتلى في أسوأ الحروب البشرية، وإن الجنس البشري يتمتع بالذكاء الكافي لتجنب ذلك المصير، لكننا بحاجة لاستخدام أفضل ما نملكه من معرفة وموهبة وقدرة تنظيمية لإنقاذ أنفسنا، ونحن بحاجة للتركيز على التأهب المسؤول الآن.

* المديرة السابقة لصندوق الاستثمار الاستراتيجي لمؤسسة "غيتس" وهي مؤسسة مشاركة ومديرة تنفيذية لمؤسسة "بايوماتيكس كابيتل بارتنرز".

*جولي سندرلاند

back to top