فقه التيسير وفكر التعسير وفزّاعة البطلان

بقاء الدولة بغير حكومة تصريف أعمال تعطيل لنص دستوري

نشر في 17-12-2019
آخر تحديث 17-12-2019 | 00:05
المستشار شفيق إمام
المستشار شفيق إمام




يقول المولى عزوجل: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر».

ومن القواعد الكلية الفقهية المسلم بها في تفسير النصوص أن المشقة تفرض التيسير، والامر اذا ضاق اتسع، بمعنى انه اذا ظهرت مشقة في أمر؛ يرخص فيه ويوسع.

وهذه القاعدة في التيسير يتفرع عنها في القانون العام ان القرار الإداري محمول على الصحة الى ان يقضى بإلغائه، وأن القانون محمول على الصحة الى ان يقضى بعدم دستوريته.

ولكن الأمر يبدو على خلاف ذلك فيما انتهت إليه دراسة نشرت على صفحات الصحف لأستاذ كبير له مكانته العلمية والاجتماعية، وله كل التقدير والإعزاز مني شخصياً، فقد انتهت هذه الدراسة الى نتيجتين:

الأولى: انه ينبغي ان يعين رئيس مجلس الوزراء من الشعب لا من افراد الاسرة الحاكمة، لأن تعيينهم كوزراء هو استثناء لا يجوز التوسع فيه، تأسيساً على ان تفسير نصوص الدستور مرجعيته لدى هذه الدراسة هي مبادئ النظام البرلماني في العالم، لأن هذا النظام ليس اختراعا كويتياً.

الثانية: أن تعيين رئيس مجلس الوزراء الجديد لا يعفي رئيس مجلس الوزراء السابق فحسب، بل هو إعفاء لوزراء حكومته جميعا من تصريف العاجل من الامور، على سند من أن الرأس اذا قطعت، فإن الجسد لا يبقى حيا ونابضا، وهي معلومة طبية بيولوجية، لا ترقى الى ان تكون قاعدة من قواعد التفسير الفقهي للنصوص التشريعية.

يذكر أن قاعدة من القواعد الكلية في تفسير النصوص تقضي بأنه قد يثبت الفرع مع عدم ثبوت الأصل (مادة 81 من مجلة الأحكام العدلية).

حرية الرأي وأدب الهجاء

لم يكن في حسبان أحد، ما استهلت به هذه الدراسة، بما ينضح بين سطورها من عبارات وألفاظ ليس من المناسب توجيهها أو استعمالها في جدل دستوري بين متخصصين ونخبة من المثقفين، يجمعهم احترام متبادل بعيد عن النيل والتعريض، وتؤلف بينهم غاية واحدة ابتغاء وجه المصلحة العامة، بما لا يخرج بالنقاش عن مجراه الطبيعي ويجعل أمره فرطا.

فقد احتكرت هذه الدراسة الحقيقة ورمت أصحاب الرأي الآخر بالمسلك غير المهني والانحراف عن الصراط السوي، لأنهم يضعون الآراء او الأحكام على مقاس الواقع، وأطلقت عليهم الدراسة فقه التلفيق، وفقه فوضى السلطة، بانحراف أصحابه عن جادة الصواب ولي أعناق النصوص، وهدم القواعد الأصولية للنظام القانوني.

وهو ما يلزمني، باعتباري من الرأي الآخر، (في دراسة حول حكومة تصريف الأعمال نشرت أولى حلقاتها على صفحات الجريدة يوم 24 نوفمبر الماضي ونشرت الحلقة الثانية يوم 10 ديسمبر)، بتبرئة ساحتي من الاتهام الجائر الموجه لي ولغيري بفقه التلفيق وفقه فوضى السلطة، والرد على الدراسة الرافضة للرأي الآخر، حتى لا تضل المفاهيم بإغراق السلطة والناس في فكر جديد هو فكر التعسير.

وإذا كانت الكويت تتميز عن غيرها من كل دول المنطقة العربية بحرية البحث العلمى، والترحيب بكل حوار مفيد، نأيا عن فرض التحكم في الرأي من جانب واحد، أيا كان مبلغه من العلم، وليس ذلك بغريب، لأن الكمال لله وحده.

وإفساحا للصدر في مقام استظهار ما تضمنته هذه الدراسة من التجني على الحقائق الدستورية والقانونية والمنطقية والواقعية فيما يتناوله هذا التجني الذي يدين نفسه بنفسه، دون حاجة في استشفافه الى عميق نظر أو تطرق الى التفاصيل التي تشهد بذلك بين ثنايا السطور والتي يطول تعقبها بالتفنيد، نجتزئ من هذه الحقائق بما نسوقه من معطيات فيما يلي:

المعطى الأول: الكويت أسرة واحدة

القول بأن اختيار رئيس مجلس الوزراء ينبغي أن يكون من الشعب لا من الأسرة الحاكمة، يجافي حقيقة دستورية، في التصوير العام لنظام الحكم، تقرر المذكرة التفسيرية للدستور بأن "وحدة الوطن واستقراره، هي الأصل في بناء العهد الجديد (حكم ما بعد الدستور)، وأنها العمود الفقري لهذا الدستور".

وتستطرد المذكرة فتقول: "فلقد امتاز الناس في هذا البلد عبر القرون، بروح الأسرة ترتبط بينهم كافة، حكاما ومحكومين، ولم ينل من هذه الحقيقة ذات الاصالة العربية ما خلقته القرون المتعاقبة، في معظم الدول الأخرى من أوضاع مبتدعة ومراسم شكلية باعدت بين حاكم ومحكوم، ومن هنا جاء الحرص في الدستور الكويتي على أن يظل رئيس الدولة أبا لأبناء هذا الوطن جميعا".

وقد وجدت هذه الأطروحة البليغة صداها في نصوص الدستور، فالمادة (29) من الدستور تنص على أن "الناس سواسية في الكرامة الإنسانية"، والمادة (7) تنص على أن "العدل والحرية والمساواة دعامات المجتمع"، والمادة (8) توجب على الدولة صون دعامات المجتمع وكفالة الأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص للمواطنين، وتقرر المادة (7) أن التعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين.

وهذه المقومات الأساسية للمجتمع الكويتي لم ترد في كلمات كتبها حالم أو شاعر أو نصوص فحسب، بل هي عقيدة ترسخت بين المواطنين بعضهم ببعض وبالحكام والأسرة الحاكمة برباط روحي وثيق، تشده القيم الإسلامية الرفيعة وترسيه هذه الأرض الطيبة التي لم تبخل على أبنائها بخيرها وخيراتها، وايمان بوحدته الوطنية التي صانت استقلاله وحرياته في أشد المحن التي مرت بها البلاد، والتي جمعت بين الشعب والاسرة الحاكمة في نسيج واحد في الطائف، أثناء العدوان الغاشم.

وهي المقومات التي تجمع بين الناس جميعا في تواد ومحبة في الافراح والاحزان، وفي كل المناسبات والأعياد.

ولعل فاجعة مسجد الصادق في يوليو 2015 تؤكد تلاحم الشعب، في لحظة فارقة جمعت أبناء هذا الشعب كله بكل طوائفه وفئاته وألوانه ومذاهبه، والأحزان تعتصر القلوب على شهداء الفاجعة الذين استشهدوا في بيت من بيوت الله، وقد كان صاحب السمو الأمير الشيخ صباح الأحمد الصباح أبا حقيقا لهذا الشعب الذي انتقل فور وقوع هذه الفاجعة الى مسجد الامام الصادق، ليقف جنبا الى جنب مع شعبه يواسي أهالي الشهداء والجرحي.

المعطى الثاني: الخروج على منطق النظام البرلماني

ولأن مرجعية الدراسة الرافضة للرأي الآخر في اختيار رئيس مجلس الوزراء هي هذه المبادئ، فقد بات ضروريا علينا الرجوع الى النظام الذي اخذ به دستور الكويت.

حيث تقرر المذكرة التفسيرية في تصويرها لنظام الحكم، وهي ملزمة شأن نصوص الدستور ذاتها: "اقتضى الحرص على وحدة الوطن واستقرار الحكم ان يتلمس الدستور في النظام الديمقراطي الذي تبناه طريقا وسطا بين النظامين البرلماني والرئاسي، مع انعطاف اكبر نحو اولهما، لما هو مقرر اصلا من ان النظام الرئاسي انما يكون في الجمهوريات، وأن مناط قيامه كون رئيس الدولة منتخبا من الشعب لبضع سنوات ومسؤولا امامه، بل وأمام ممثليه على نحو خاص".

وتبرر المذكرة التفسيرية للدستور أسباب الخروج على منطق النظام البرلماني البحث، الذي اعتبرت الدراسة ان مبادئه هي مرجعيتها في تفسير نصوص الدستور، بأن "علة النظام البرلماني في العالم يكمن في المسؤولية الوزارية التضامنية أمام البرلمان، فهذه المسؤولية هي التي يخشى ان تجعل من الحكم هدفا لمعركة لا هوادة فيها بين الاحزاب، بل وتجعل من هذا الهدف سببا رئيسيا للانتماء الى هذا الحزب او ذاك، وليس أخطر على سلامة الحكم الديمقراطي من ان يكون هذا الانحراف اساسا لبناء الاحزاب السياسية في الدولة، بدلا من البرامج والمبادئ، وأن يكون الحكم غاية لا مجرد وسيلة لتحقيق حكم أسلم وحياة أفضل. وإذا آل أمر الحكم الديمقراطي الى مثل ذلك، ضيعت الحقوق والحريات باسم حمايتها، وحرف العمل السياسي عن موضعه ليصبح تجارة باسم الوطنية، ومن ثم ينفرط عقد التضامن الوزاري على صخرة المصالح الشخصية الخفية، كما تتشقق الكتلة الشعبية داخل البرلمان وخارجه مما يفقد المجالس النيابية قوتها والشعب وحدته. لذلك كله كان لا مفر من الاتعاظ بتجارب الدول الأخرى في هذا المضمار، والخروج بالقدر الضروري عن منطق النظام البرلماني البحت، برغم ان نظام الامارة وراثي".

لذلك، فإن الدراسة الرافضة للرأي الآخر تفقد مرجعيتها في اعتمادها على مبادئ النظام البرلماني البحت الذي لم يأخذ به الدستور أصلا.

المعطى الثالث: عدم جواز تعطيل نص دستوري

فقد انتهت الدراسة الرافضة للرأي الآخر إلى عدم وجود حكومة لتصريف الاعمال، على أساس من قاعدة علمية طبية بيولوجية تتعلق بحياة الانسان والكائنات الحية بوجه عام، عندما يفصل رأس الكائن الحي فإن الجسد لا يبقى حيا نابضا، وهي لا ترقى أن تكون قاعدة من قواعد تفسير النصوص التشريعية، يجوز ابتناءً عليها تعطيل نص دستوري، يواجه ضرورة عدم وجود فراغ دستوري أو وزاري فيما تنص عليه المادة (103) من أنه: "إذا تخلى رئيس مجلس الوزراء او الوزير عن منصبه لأي سبب من الأسباب يستمر في تصريف العاجل من شؤون منصبه لحين تعيين خلفه".

وتحظر المادة (181 ) من الدستور تعطيل أي حكم في الدستور إلا اثناء قيام الأحكام العرفية.

وينطوي التفسير سالف الذكر على تنقيح الدستور، بتعطيل نص المادة 103 من الدستور، في حالة استقالة الحكومة، وهو نص لم يشرع إلا لمواجهة الفراغ الوزاري في هذه الحالة بالذات، باعتبار ان بقاء الوزراء في مناصبهم ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، فكيف لا تبيح ما هو مباح؟

وبالرغم من ان المادة (90) من الدستور تنص على ان "كل اجتماع يعقده المجلس في غير الزمان والمكان المقررين لاجتماعه يكون باطلا، وتبطل بحكم القانون القرارات التي تصدر فيه"، فقد جسدت المذكرة التفسيرية للدستور نظرية الضرورة في تفسيرها لأحكام هذه المادة؛ عندما قررت بأن "نص هذه المادة لا يمنع دستورياً من اجتماع المجلس في غير الزمان والمكان المقررين لاجتماعه، إذا دعت ضرورة لذلك، وفقاً للضرورة وبشروطها القانونية المقررة".

كما قررت المذكرة التفسيرية في تفسير المادتين 102 و103 من الدستور أن "رئيس مجلس الوزراء الذي يتكرر قرار عدم التعاون معه وفقاً للمادة 102 فلا مندوحة من تطبيق المادة 103 في شأنه، حتى لايكون هناك فراغ وزاري". بالرغم من أن المادة (102) تنص على اعتباره معتزلا منصبه من تاريخ قرار المجلس.

المعطى الرابع: أن ممارسة الاختصاص واجب على شاغله

فالأصل في قواعد الاختصاص في القانون العام- أنها من النظام العام، وهي تقوم على ركنين أساسيين.

الركن الأول: أن الاختصاص بالوظيفة ومسؤولياتها إنما يتخصص الزمان والمكان المحددين لممارستها.

الركن الثاني: أن الاختصاص واجب على شاغل الوظيفة بإلزامه بأن يتولاها بنفسه.

ومن هنا يصبح واجباً على وزراء الحكومة المستقيلة تصريف العاجل من أمور مناصبهم، ولا خيار لهم في ذلك، ولو ابتني ذلك على رأى لم يبِن صوابه، بل ثبت العكس، وأنه يقوم على الشك، واليقين لا يزول بالشك.

ويصبح واجبا كذلك على سمو الشيخ صباح الخالد بتعيينه رئيسا للحكومة وحلفه اليمين الدستورية أن يترأس حكومة تصريف الاعمال، وهي الحكومة الوحيدة القائمة وقت حلف اليمين، إلى أن تشكل الحكومة الجديدة.

فالأمر ليس لهوا أو لغوا، والأمير ذاته مصونة لا تمس وينزه عن كليهما، وهو ما جرى فعلا عندما وقع الشيخ صباح الخالد إلى جانب توقيع صاحب السمو على المرسوم الصادر بتكليف وزير الصحة بحمل حقيبة وزارة الخارجية بالوكالة.

فقد كان هذا الإجراء هو الذي يتفق وصحيح حكم الدستور، باعتبار الشيخ صباح الخالد صاحب الولاية الكاملة لمهام منصب رئيس مجلس الوزراء.

المعطى الخامس

استخدمت الدراسة المشار إليها فزاعة البطلان على سند من حكم المحكمة الدستورية الصادر بجلسة 20/6/2011 في الطعنين رقم 5 و19 لسنة 2012، والقاضي بإبطال عملية الانتخاب برمتها، التي أجريت بتاريخ 2/2/2012 في الدوائر الخمس، لبطلان حل مجلس الأمة وبطلان دعوة الناخبين لانتخاب أعضاء مجلس الأمة والتي تمت على أساسها هذه الانتخابات.

تأسيسا على ما جاء في أسباب الحكم من أن رئيس مجلس الوزراء قد استبق– بصفته هذه– قبل تأليف هذه الوزارة الجديدة وصدور مرسوم بتشكيلها، باستعارة أعضاء من الوزارة المستقيلة التي زالت صفتها في اجتماع لمجلس الوزراء لأخذ موافقتهم على هذا الحل، فإن الحل يكون غير صحيح من الوجهة الشكلية، مخالفا لروح المبادئ الدستورية.

وعلى سند كذلك من الحكم الصادر بجلسة 20/6/2012 في الطعنين رقم 6 و30 لسنة 2012، بإبطال عملية الانتخاب برمتها، التي أجريت بتاريخ 2/2/2012 في الدوائر الخمس، وبعدم صحة عضوية من أعلن فوزهم فيها، لبطلان حل مجلس الأمة.

تأسيسا على ما جاء في أسباب هذا الحكم أيضاً من أن حل مجلس الامة قد جاء بناء على طلب وزارة قد زايلتها هذه الصفة، بقبول الأمير استقالتها بكاملها، وذلك بعد أن تم تعيين رئيس جديد لمجلس الوزراء بأمر أميري، وتكليفه بترشيح أعضاء الوزارة الجديدة قبل تأليف هذه الوزارة الجديدة وصدور مرسوم بتشكيلها، باستعارة اعضاء من الوزارة المستقيلة، التي زالت صفتها، ونظمهم في اجتماع لمجلس الوزراء لأخذ موافقتهم على هذا الحل، فإن هذا الإجراء يكون غير صحيح من الوجهة الشكلية، مخالفا لروح المبادئ الدستورية والغرض الذي من أجله شرعت سنته.

إذ لا يجوز أن يتخذ الحل الذي رخص به الدستور للحكومة استعماله وحدد طبيعته وإجراءاته والغرض منه، ذريعةً إلى إهدار أحكام الدستور ومخالفتها.

والبين من منطوق هذين الحكمين، والأسباب الجوهرية التي بني عليها الحكمان أنه لا يجوز استخدام هذين الحكمين كفزاعة لشل آليات الحكم خلال فترات استقالة الحكومة، لأنه لا يبين من الأسباب الجوهرية للحكمين التي تحوز حجيتها مع منطوق الحكمين أن أيا منهما قد أبطل حل المجلس، لأن رئيس الحكومة المعين لتشكيل الحكومة الجديدة قد ترأس حكومة تصريف العاجل من الأمور، بل لأن الحل يخرج من اختصاص هذه الحكومة وولايتها أصلا أيا كان من ترأسها، ولو كان رئيس الحكومة المستقيلة، وأن رئيس الحكومة الجديدة كامل الصلاحية، لا يستطيع أن يضفي هذه الصلاحية الكاملة التي تملك هذا الاختصاص الخطير وهو طلب حل مجلس الأمة على الحكومة المستقيلة ناقصة الصلاحية، والتي تقتصر صلاحياتها على تصريف العاجل من الأمور، والحل ليس كذلك.

القول بأن اختيار رئيس مجلس الوزراء ينبغي أن يكون من الشعب لا من الأسرة الحاكمة يجافي الحقائق الدستورية والواقعية

الكويت أسرة واحدة حكاماً ومحكومين حقيقة دستورية وعقيدة راسخة في وجدان الشعب

المحكمة الدستورية قضت بأن حل مجلس الأمة ليس من صلاحيات حكومة تصريف الأعمال

«الدستورية» لم تقضِ بأن رئيس الوزراء الجديد لا يتولى رئاسة تصريف الأعمال
back to top