هل يتصدر ماكرون زعامة أوروبا المستقبل؟

نشر في 18-10-2019
آخر تحديث 18-10-2019 | 00:04
إيمانويل ماكرون
إيمانويل ماكرون
في عالم من المنافسة المتصاعدة بين القوى العظمى وتراجع النظام المتعدد كان ماكرون على حق في المجادلة بأن المشاركة في قضايا العالم تقتضي أن تتصرف أوروبا مثل قوة مستقلة، لكن نجاحه يتطلب الحصول على دعم من شركاء أوروبيين آخرين.
مما لا شك فيه أن مجموعة من العوامل ربما تطرح إمكانية تزعم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمسار السياسة الخارجية في أوروبا، وتشمل هذه العوامل وجود من توصف بالبطة العرجاء أنجيلا ميركل في منصب المستشارة في برلين، وانهماك رئيس الوزراء البريطاني الجديد بوريس جونسون في لعبة النهاية المتعلقة بخروج بلاده من الاتحاد الأوروبي وحالة الاضطراب التي تعصف بواشنطن في عهد الرئيس دونالد ترامب.

وتتسم أنشطة ماكرون الدبلوماسية الأخيرة بتأثير لافت وهي تشمل محاولات التوسط لإجراء محادثات بين روسيا وأوكرانيا وبين إيران والولايات المتحدة، ولكنها لم تسفر حتى الآن عن نتيجة مؤثرة، وإضافة إلى ذلك فقد برز الرئيس الفرنسي كأشد سياسي أوروبي تشدداً في التعامل مع الصين التي يعتزم أيضاً زيارتها في شهر نوفمبر المقبل.

وفي حين كانت قيادة ماكرون للسياسة الخارجية موضع ترحيب– وخصوصا لافتقار بقية زعماء أوروبا لرؤيته الناضجة– فقد قاوم الرغبة في الانفراد بهذه الخطوة بمفرده خشية إثارة شكوك العواصم الأوروبية إزاء نوايا وأهداف باريس. ومن أجل ضمان النجاح يتعين على الرئيس الفرنسي تنسيق مبادراته الدبلوماسية بصورة أوثق مع الزعماء الآخرين في الاتحاد الأوروبي. وعلى سبيل المثال، تشعر الكثير من العواصم في مناطق الشمال– البلطيق ووسط وشرق أوروبا- بقلق إزاء خطط باريس الرامية إلى تحقيق تقارب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهنا يستطيع ماكرون الاستفادة من تعامله مع الزعيم الصيني شي جين بينغ عندما دعا رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود ينكر ومستشارة ألمانيا ميركل الى الانضمام الى قمة باريس في شهر مارس الماضي.

يحب كثرة الكلام

يحب إيمانويل ماكرون الإكثار من الكلام وما من أحد يستطيع منعه من ذلك، وهو يحب التحدث على طريقة الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو حول مشاكل حقيقية أيضاً مثل: التمزق في الاتحاد الأوروبي وانكماش اقتصاد القارة العجوز والمشاكل مع روسيا والصين، ولكن طرح الأفكار بسرعة لا يصنع زعيماً.

والنتائج مهمة أيضاً، وكانت على أي حال، وعلى صعيد الشؤون الخارجية تافهة وضعيفة، وسبب ذلك ليس لأن ترتيب محادثات بين الرئيسين الأميركي والإيراني كانت فكرة سيئة، ولكن لأنها تفتقر الى جوانب جوهرية: العداوات السياسية الأعمق في العلاقات الثنائية، وإحياء اتفاقية «مينسك» حول حل النزاع في شرق أوكرانيا، وهي فكرة ممتازة ولكن ماكرون أيضاً يجهل حقاً اهتمامات الرئيس الروسي بوتين وتكتيكاته.

العلاقة مع ألمانيا

وقد أخطأ ماكرون أيضاً في قراءة علاقات بلاده مع ألمانيا ومع الدول القوية في الشمال الأوروبي وتسبب في ازعاج أولئك الذين كان في حاجة الى دعمهم من أجل تنفيذ مقترحاته، لكنه حقق أداء جيداً في وظائف البنوك الأوروبية والدولية ولكن ذلك لم يسفر عن تحقيق نتيجة مؤثرة تفضي الى نجاح في السياسة.

وربما كان ماكرون قائداً في سياسة أوروبا الخارجية بالخطأ، لكن ذلك يعني أيضاً وجود سياسة خارجية أوروبية، ومن المؤكد أنه ما من أحد يستطيع أن يتحدى دوره وذلك لأن بريطانيا خرجت من التكتل الأوروبي ولا تريد ألمانيا دوراً قيادياً وهي راضية بالوضع القائم كما أن إيطاليا وإسبانيا تشغلهما قضايا تشكيل حكومات، والدول الأصغر الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تفتقر الى أجندة مشتركة والى تنسيق في السياسة.

المعروف أن المفوضية الأوروبية تحولت الى بطة عرجاء منذ الربيع الماضي، كما أنها لم تحقق الكثير من النجاح عبر منسقة سياستها الخارجية فيديريكا موغيريني، وخصوصا بالنسبة الى دفع مجلس الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي الى تأييد أفكارها ومقترحاتها. وبحسب وضع الأمور الحالي ليس بين كل هذه العوامل ما قد يفضي الى تغير كبير في وقت قريب على أي حال.

ومن جهة اخرى، توجد لدى الرئيس الفرنسي حوافز مهمة تدفعه الى التحرك والعمل، كما أن تعثر الاصلاح الداخلي نتيجة احتجاجات أصحاب السترات الصفراء والأفكار المتعلقة بالإصلاح في منطقة اليورو أسهم في جعل السياسة الخارجية الميدان الوحيد المتبقي لسعيه الى الرئاسة. ومن هذا المنطلق بدأ ماكرون بوضع يده على قضايا كانت تخص الآخرين، سواء معالجة إيطاليا للأزمة في ليبيا أو العلاقة بين ألمانيا وروسيا أو تأثير نفوذ بريطانيا على الملف الايراني.

ويعتقد ماكرون أن وجود أوروبا الضعيفة سوف يقلص دور فرنسا في القضايا الدولية، والسؤال الآن هو: هل سبق أن كان لأوروبا قائد للسياسة الخارجية؟ وهل لأوروبا سياسة خارجية؟ لا. ولكن يجب أن تسعى الى ذلك الهدف.

وبانتظار أن تحصل أوروبا على سياسة خارجية يعتقد ماكرون أن عليه اتخاذ مبادرات نظراً لعدم وجود شخص آخر للقيام بذلك، ولديه نظرته الخاصة، فهو مقتنع بأن الوقت بدأ ينفد بالنسبة الى أوروبا على المسرح الدولي وأن عملية اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي بطيئة للغاية، ونتيجة لذلك فهو يريد غربلة النظام والاضطلاع بدور قيادي، وقد تنجح هذه الخطوة في بعض الأحيان، وقد لا تنجح في أوقات أخرى ولأكثر من سبب.

شخصية مثيرة للاهتمام

ماكرون بكل تأكيد شخصية مثيرة للاهتمام في أوروبا، وتظهر طريقة استخدامه للشعبوية ضد الشعبويين موهبته اللافتة. وهو يتحدث بصورة مباشرة الى الناس كما رأينا في احتجاجات أصحاب السترات الصفراء، كما أن لديه أهدافه المهمة وقد وضع فكرة «الاتحاد الأوروبي المحمي» في ذروة سياسته المتعلقة بذلك التكتل.

وتجدر الإشارة إلى أن ماكرون أدى دوراً مؤثراً وفعالاً في جمع فريق القيادة الجديد في الاتحاد الأوروبي معاً، والكثير من اللاعبين الرئيسيين هم من حلفائه المقربين، وإذا أراد اليوم استثمار بعض طاقته في إحياء السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي فإن ذلك سيؤدي الى منافع كبيرة بالنسبة الى أوروبا والى فرنسا بصورة خاصة. ولا يرجع ذلك إلى كون ماكرون هو من يحدد السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي بل لأنه يبدو القائد الوحيد في ذلك التكتل الذي لديه أي أفكار حول السياسة الخارجية.

وقد تراجعت شعبية أنجيلا ميركل نتيجة ضعف الاقتصاد الألماني وكانت سياسة برلين الخارجية منذ عام 1946 حتى 2016 تتبع الخط الأميركي، ولكن الرئيس ترامب أنهى ذلك المسار وفرض على ألمانيا التوجه نحو سياسة مغايرة.

وتغير الوضع في بريطانيا بعد طرح فكرة خروجها من الاتحاد الأوروبي، وتنشغل إيطاليا وإسبانيا بمشاكل داخلية ولا تفكر بولندا إلا بخطط روسيا فقط.

وهكذا بدأ ماكرون بالتودد إلى بوتين وإبلاغ سكان غرب البلقان أن عليهم الانتظار لسنوات قبل تمكنهم من الانضمام الى أوروبا، كما شجب «الإرهاب الإسلامي» وطالب بإجراء مشدد ضد الهجرة.

ولكن السؤال هو هل أن هذه سياسة خارجية أم داخلية؟ وأكثر ما يخشاه ماكرون هو أن تتفكك فرنسا في عهده كما حدث قبل 40 سنة في عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان، ويريد ماكرون قبل أي شيء آخر عدم حصول زعيمة اليمين الفرنسية المتطرفة مارين لوبان على فرصة للتقدم، ولذلك فهو يتودد الى بوتين بأمل مساعدته في تحقيق هذا الهدف، مع أن هذه سياسة داخلية تطرح تحت غطاء سياسة خارجية.

والسؤال هو لماذا يلجأ ماكرون الى هذا المسار؟ والجواب هو لأن أوروبا تواجه فجوة قيادة دبلوماسية، وبريطانيا منهمكة بقضية البريكست التي صرفتها عن الشؤون الدولية، وأنجيلا ميركل تزداد ضعفاً نتيجة المصاعب الداخلية، كما أن أوروبا التي تواجه تقلبات الولايات المتحدة وتصميم الصين أصبحت في حاجة الى صوت استراتيجي قوي، وقلة فقط من القادة الليبراليين– الديمقراطيين يستطيعون تقديم ذلك الصوت.

اللجنة الأوروبية

في غضون ذلك، ساعد ماكرون في ضمان تشكيل لجنة أوروبية مؤيدة لفرنسا وتعيين الفرنسية كريستين لاغارد في منصب رئيسة البنك المركزي الأوروبي والتي ستساعده في تحقيق أجندته الأوروبية.

وتجدر الاشارة الى أن ماكرون أقام قبل عامين اتصالات شخصية وتعلم البعض من الدروس الصعبة حول حدود الطموحات الدبلوماسية، ولكنه قد يصاب بخيبة أمل على أي حال، وقد أصبحت باريس وجهة لأنشطة دبلوماسية في الوقت الراهن أبرزها قيادة فرنسا لجهود أوروبية لمنع تصعيد التوتر بين الولايات المتحدة وايران.

ويثير أسلوب ماكرون طبعاً الكثير من القادة الأوروبيين كما أن خططه الديغولية الطابع ستقاوم من جانب بولندا ودول البلطيق واندفاعة فرنسا ستصطدم دائماً بحذر من قبل ألمانيا، ولكن ماكرون يؤكد استعداده للمجازفة من أجل الدفاع عن مصالح أوروبا.

وأخيراً، وفي عالم من المنافسة المتصاعدة بين القوى العظمى وتراجع النظام المتعدد كان ماكرون على حق في المجادلة بأن المشاركة في قضايا العالم تقتضي أن تتصرف أوروبا مثل قوة مستقلة، لكن نجاحه يتطلب الحصول على دعم من شركاء أوروبيين آخرين.

خطط ماكرون الديغولية الطابع ستقاوم من جانب بولندا ودول البلطيق واندفاعة فرنسا ستصطدم دائماً بحذر من قبل ألمانيا

أخطأ ماكرون في قراءة علاقات بلاده مع ألمانيا والدول القوية شمال أوروبا وأزعج أولئك الذين كان في حاجة إلى دعمهم
back to top