«تانكي» عالية ممدوح

نشر في 02-10-2019
آخر تحديث 02-10-2019 | 00:05
 طالب الرفاعي في كتابه (الشرعية وسلطة المتخيل)، يقول د. سعيد بنكراد: "ما تبنيه الحكاية لا يمكن إلا في النادر من الحالات، إلغاؤه أو التحكم في امتداداته. كل شيء يتم كما لو أن حياتنا مودعة في القصص نفسها، لا فيما يقوله الحدث اليومي. لذلك قد تكون الحكاية هي الوسيلة المثلى، إن لم تكن الوحيدة، لتسريب التجربة الفردية إلى ما راكمته الجماعة واحتفت به أو قاومته". (ص 13)

تكاد الجملة الأخيرة من فقرة د. بنكراد تنطبق تماماً على رواية عالية ممدوح الأخيرة (التانكي)، الصادرة عن دار المتوسط، 2019. فبعيداً عن كل القراءات الصحافية التي تناولت الرواية، وبعيداً عن كل التفاسير النقدية التي تطرَّق إليها الزملاء الأفاضل الذين كتبوا عن الرواية، وبعيداً أيضاً عن تفاصيل المكان والزمان وشارع "التانكي"، فإن عالية ممدوح سجَّلت سيرتها الذاتية الخاصة والحميمة في هذه الرواية، وكتبت شهادتها على زمن امتدَّ من نهاية السبعينيات، ولم يزل فاعلاً في حياتها حتى لحظتنا الراهنة. شهادتها التي راوحت بين بغداد الواقع والحلم والانكسار والألم، وبين باريس الواقع والغربة والتعلق والغصة.

شخص يركب سفينة كبيرة في وسط البحر، ويعمل أو يتريض كل صباح بالسير في أنحاء السفينة، هكذا حال كل كاتب، مهما تطلع إلى شواطئ حاضرة وبعيدة، ومهما جالت في رأسه أفكار وخيالات وقصص وذكريات، فإنه يظل في السفينة، وهو حين يعود إلى غرفته الصغيرة ويغلق باب قلبه، فليس له إلا عالمه وقناعاته ولغته وخياله. لذا، فإن ما خطته عالية ممدوح، وهي بسفينة عيشها الراسية في باريس منذ ما يزيد على الأربعين عاماً، هو عالمها الداخلي، وهو تجربة حياتها، وهو ذكرياتها، وهو مرضها وعلاجها في مستشفيات باريس وحلمها بالغد، سواء جاء ذلك على لسانها بشكل مباشر ومكشوف، أو جاء على لسان بطلتها "عفاف". وهنا لا يمكن إغفال دلالة الاسم، فعفاف عفيفة عن الاشتباك في علاقات الحب الساخنة، وعفيفة عن أن يصل الرجال إليها، وعفيفة عن التعلق بأي علم، حتى لو كان قريباً إلى قلبها، وأخيراً هي عفيفة أيضاً عن التعلق بالوطن، متى ما استحال هذا الوطن إلى ضيق وخيبة يضغطان الروح والقلب ويدميان الخاطر.

"التانكي" ليست رواية نمطية، بمعنى حدث يتنامى وأبطال يشتبكون مع مصائرهم وحبكة تأخذ بالسرد إلى نهايته، فقد كتبت عالية روايتها بتهاويم وتيار الوعي واللاوعي، وكتبتها كأجزاء صغيرة متناثرة للوحة كبيرة، وعلى القارئ إذا أراد التمتع برؤية الصورة أن يجهد كي يجمع شتات هذه الصورة، وأن يبتعد لبرهة، كي يتأمل هذا الوجع الإنساني بضياع أسرة وأصدقاء ووطن، وعيش غربة تمنح بقدر ما تأخذ، وأخيراً التأرجح على عارضة لحظة العيش اليومي المر، لا لشيء إلا للبقاء على قيد الحياة.

إن لغز اختفاء "عفاف" بطلة الرواية، هو لغز اختفاء آلاف بل مئات الآلاف ليس من العراقيين فقط، بل من العراقيين والسوريين، وقبلهم من اللبنانيين، ولاحقاً من الليبيين واليمنيين، وربما هناك آخرون كثر لا أحد يعرف ماذا فعل بهم الدهر وماذا فعلوا به. فالدكتاتوريات العربية لم تكتفِ بسحق الإنسان العربي الضعيف والمضطهد، بل سحقت فيما سحقت أوطاناً كبيرة وعظيمة، وتركتها خراباً ودماراً وبؤساً. نعم، كل الدكتاتورية العربية سحقت أرواح أبناء أوطانها بـ"بسطار" العسكر، وهوت بأوطاننا إلى الحضيض والعوز والاحتراب والقتل والجوع، ومضت إلى مصيرها المحتوم، إلى الموت دون أسفٍ عليها.

الزمن كل الزمن يتكثف في الماضي، ليس من حاضر، فالحاضر ينقضي لحظة ننتبه إليه، واللحظة الماضية قبل ثانية، أو دقيقة، أو ساعة، أو يوم، أو أسبوع، أو شهر، أو قرن هي ذكرى، وليس للكاتب أن يكتب إلا من الذكرى، وهو إذ يكتب ما يكتب، بشكل واعٍ ومبدع، فإنه يجعل للحدث الإنساني العابر معنى، ويجعل له حضوراً يبقيه شاهداً على تلك اللحظة. وأخيراً يضيف رصيداً لمعرفة الإنسان بنفسه والعالم.

back to top