ما قل ودل: الناس سواسية... الدرس الأول في الحج

نشر في 15-09-2019
آخر تحديث 15-09-2019 | 00:08
 المستشار شفيق إمام من كل حدب وصوب، ومن كل فج عميق، من مشارق الأرض ومغاربها، من كل الأجناس والأطياف والألوان، يقف التائبون من ملايين البشر في الحرم المكي يطوفون ويسعون في ثياب الإحرام، الكل في هذه الثياب سواء، كمن ولدته أمه، لا زخرف ولا زينة ولا عطر، ثياب مجردة من الزهو والخيلاء في مكة وفي عرفة يوم التاسع من شهر ذي الحجة بعد الشروق، ليخرجوا من المزدلفة قبل الشروق إلى منى يوم عيد الأضحى يبيتون فيها ويرمون الجمرات، مكبرين عند كل حصاة، ثم يطوفون طواف الوداع، الكل في هذه الرحلة الشاقة في ضعف وذل، وبكل صدق وشوق يتضرع إلى واهب الحياة، نصره ونوره وبركته وهداه، ويعوذون بالمولى عز وجل من شر ما خلق، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، برحمته يستغيثون، وبمغفرته يلوذون، ومن شرور أنفسهم يتعوذون، يسألونه، جلت قدرته وعلت، العفو والعافية في دينهم ودنياهم وأوطانهم وأموالهم، وعقولهم وأبدانهم وسمعهم وبصرهم، ويعوذون به من العجز والجبن والبخل والقهر والكفر.

وفي ثياب الإحرام، وفي كل خطوة تخطوها هذه الملايين، للقيام بمناسك الحج، دروس مستفادة، تعود بعدها هذه الملايين إلى أوطانها وبلدانها، أملا في أن يثبت الله إيمانها وتوبتها، إلا أن بعض هذه الملايين تنسى الدرس الأول المستفاد من هذه الطقوس والمناسك، ألا هو المساواة بين البشر جميعا.

الناس سواسية في الكرامة الإنسانية

في قوله تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"، وفي قوله سبحانه: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ"، وقوله عز وجل: "اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ"، وقوله سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ".

وقد جسد دستور الكويت المبدأ السامي القرآني في استهلال المادة (29) لأحكامها فيما نصت عليه من أن "الناس سواسية في الكرامة الإنسانية".

وجدير بالذكر أنه عندما استضافت قناة فضائية مصرية أحد الفقهاء الدستوريين المصريين، للحديث عن الاتجاهات الحديثة في دستور مصر 2012، اعتبر النص المقابل في هذا الدستور للنص الكويتي إنجازاً، لم يسبق إليه أحد إلا الدستور الألماني، ويبدو أنه لم يقرأ الدستور الكويتي، لأنه كان الأسبق من كل الدساتير المعاصرة في تجسيد هذا المبدأ.

المساواة بين الناس

أعلى الإسلام مبدأ المساواة في أكثر من آية من كتاب الله، يقول سبحانه: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً". وفي قوله سبحانه: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ"، وفي قوله عز وجل: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".

وقد جسد دستور الكويت هذه المعاني جميعا فيما تنص عليه المادة (29) من الدستور من أن الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، هم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين.

المساواة جوهر العدل

ذلك أن العدل لغة يعني التسوية في المعاملة، لذلك فإن كل آيات القرآن الكريم التي تدعو إلى العدل، تعني في الوقت ذاته الدعوة إلى المساواة بين البشر جميعاً. يقول الرحمن عز وجل: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً". وقوله تعالى: "وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ".

ويصل العدل غايته الكبرى، عندما يأمر المولى عز وجل، بالعدل حتى من لا تحب، في قوله سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ".

وإذا كانت العداوة لا تجيز ترك العدل، فالمودة أيضا لا تجيز ذلك في قوله سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً".

وقد أعلى دستور الكويت مرتبة العدل وقيمته بالنص في المادة (162) على أن العدل أساس الملك، وفيما نصت عليه المادة (7) من أن العدل والحرية والمساواة دعامات المجتمع، وهي الدعامات التي ألزم الدستور في المادة (8) الدولة بصونها.

المساواة في السنّة النبوية

ويقول الرسول- صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع "أيُّها النَّاسُ: إنَّ ربَّكمْ واحدٌ، وإنَّ أباكمْ واحدٌ، ألا لا فَضلَ لعربيٍّ على عَجميٍّ، ولا لعَجميٍّ على عَربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسوَدَ، ولا لأسوَدَ على أحمرَ، إلَّا بالتَّقوَى، إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ"، ويقول- صلى الله عليه وسلم: "الناس سواسية كأسنان المشط"، ويشرح الرسول العدل باعتباره أسمى مبادئ القرآن، فيقول صلى الله عليه وسلم: " إنَّ المقسِطين عند اللهِ يومَ القيامةِ على منابرَ من نورٍ عن يمينِ الرحمنِ، وكلتا يدَيه يمينٌ: الذين يعدِلون في حكمِهم، وأهليهم وما وَلُوا". ويقول أيضاً: "وعدل ساعة أفضل من عبادة ستين سنة: قيام ليلها وصيام نهارها، وجور ساعة أشد وأعظم عند الله عز وجل من معاصي ستين سنة". ويقول صلى الله عليه وسلم: "دعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين".

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

back to top