صالحة البنية

نشر في 03-09-2019
آخر تحديث 03-09-2019 | 00:05
 حمود الشايجي (١)

رفعت صالحة رأسها إلى المصابيح التي تزينت بها سماء الحوش، ثبَّتَتْ عينها ناحية المصباح مبتعدة عن كل من حولها، وكأنها كانت تريد أن ترى شيئاً، لكن مجيء عودة وأم العروس قاطعها. عودة ساعدها على النهوض، وهي تقوم من محلها رفعت رأسها مرة ثانية ناحية المصابيح، وُسِّع لها في ميدان الرقص، على إيقاعات السامري راحت ترقص في قلب الحوش وحيدة، لا أحد يشاركها الميدان بعد انسحاب جميع من حولها تاركينها تتوحد بالإيقاع والزغاريد.

صالحة لا تعتمد على الإيقاعات التي تأتي من خارجها، إيقاعها داخلي المنشأ، لا ينتهي بنهاية عزفٍ أو مُقاطعةِ زغاريد، أو حتى صيحات استحسان أو استهجان، «الإيقاع من هنا»، هذا ما كانت تقوله لجليلة وهي تشير إلى وسط صدرها. «إذا ما حسيتيه يطلع من هني، ما راح تعرفين ترقصين أبد». جليلة ذات السنوات الخمس تسمع صالحة بتمعن، بعينيها الواسعتين أكثر من أذنيها، تحفظ ما يُقال لها وتنساه وَتُذَكِّرُها صالحة به. «تذكري الإيقاع من هني مو من اذنج، اذنج دايماً راح تخدعج بس صدرج عمره ما يخدع»*.

(٢)

كانت الرغبة تتحرك بي منذ سنوات عدة، أريد أن أكتب عن مقام الخضر وعن جزيرة فيلكا، بحثت كثيراً، إلى أن وصلت لصورة بالأبيض والأسود لصالحة البنية، عندما رأيتها للمرة الأولى سُحرت بها، كان وجهها الحبشي المخفي وراء لثام وعينها الصارمة، ورقصتها بالعصا أمام جموع من الرجال في جزيرة فيلكا، لم أنم ليلتها، صحت بأعلى صوتي «وجدتها»، صالحة فعلاً سحرتني، أخذتني حيث أرادت، لدرجة أني مؤمن بأني لم أكتب شيئاً في رواية جليلة لم تردني صالحة البنية أن أكتبه، صالحة هي التي شكلت الرواية، هي التي أخذت تحيك الشخصيات الكثيرة أمامي، بالإضافة إلى الكثير من الأحداث والمشاهد وأنا أنقلها عنها.

كنت أشاورها بكل صغيرة وكبيرة، حتى الأشياء غير المنطقية، كأن يكون اسم أحد الشخصيات الرئيسية «الشيخ مراد»، استغربت الاسم أولاً لكني أحببته مستسلماً، ورغم بحثي الكثير لم ألحظ هذا الاسم في الكتب التي بحثت بها ولم أسمعها من الأشخاص الذين قابلتها وأنا أبحث للرواية، لكني بعد قطع شوط كبير من كتابة رواية جليلة، تجلى أمامي في احدى الكتب اسم «الشيخ مراد»، ولم يكن اسماً عادياً بل كان صاحب كرامات وله في جزيرة فيلكا مقام يذهب له الناس لينالوا مرادهم.

بعد هذا الاكتشاف والكشف عرفت أن إيماني فيما تقوله لي صالحة البنية، كان في مكانه، لم تخيب ظني بها، بل فاجأتني وكأنها تكرمني بالتأكيدات التي تأتيني من القرَّاء بعد طباعة الرواية، فأغلبهم عادوا إلا أمهاتهم وجداتهم يسألون عن صالحة البنية ومن تكون، وبدأت سيرة صالحة وحكاياتها تدور خارج حدود رواية جليلة، وتصلني حكايات أكثر مما كنت أعرف وأعلم، من مثل هذه الرسالة:

«أستاذي العزيز: هل تعلم أن صالحة البنية أهدت والدتي عباءة وهي في سن الثالثة عشرة، وأن هناك قبراً باسم الشيخ مراد في فيلكا، وكما قالت والدتي إنه يعطي المراد، وهل تعلم أن أرض الخضر كانت مملوكة لعائلة السند، أردت أن تعلم أن روايتك أثارت فيني التساؤلات ولا تزال...».

(٣)

إلى اليوم وصالحة تأتي وتحكي لي الكثير من الحكايات، وتكشف لي الكثير مما لا أعرفه، وكأنها تحضرني لمرحلة جديدة من الكتابة، لكن هذه المرة عمَّن تكون، هل ستكون عنها مرة أخرى.

* مشهد من رواية جليلة.

back to top