محمود المليجي... شرير الشاشة (10-10)

رحيل عملاق التمثيل بعد قراءة مشهد الموت في فيلم «أيوب»

نشر في 03-06-2019
آخر تحديث 03-06-2019 | 00:00
تتابعت الذكريات مع الفنان محمود المليجي كشريط سينمائي حافل بالإثارة، ولقطات لا تنسى في حكايته مع التمثيل. في الحلقة السابقة، تحدثنا عن حكاية تعرّفه إلى الفنانة علوية جميل، وكيف صارت رفيقة عمره على الشاشة والحياة، وقامت بدور الزوجة والأم معاً، وفرضت «المرأة الحديد» نظاماً صارماً داخل القفص الذهبي، وتصدت لزواجه السري مرتين، وجمعتهما خيوط درامية متشابكة، وقصة نجاح لأطول زواج عرفه الوسط الفني.
في غمار تجربته الفنية، بحث محمود المليجي عن نقطة ضعفه، ووجد أنها التواضع الزائد، وتحمل أعباء الآخرين من دون تعب، وتناغمت مع شعوره بالقوة في أداء عمله كما ينبغي، وهذا سر النجاح لممثل فائق الموهبة، والأكثر تأثيراً في حياة أجيال من الفنانين، لا سيما في مقتبل حياتهم الفنية، وتحوله إلى أيقونة فريدة على المسرح والشاشة، ويخشى كبار النجوم الوقوف أمامه.

كان المليجبي يعلم أن قانون السينما لا يتيح له الكثير من الأدوار الجيدة، لكنه لم يحب البطالة، والجلوس في بيته لينتظر دوراً فارقاً مثل «الباشا» في «غروب وشروق» مع المخرج كمال الشيخ، أو الفلاح محمد أبوسويلم في «الأرض» 1970، للمخرج يوسف شاهين. والمفارقة أنه قام بدور «الباشا» الظالم، عندما تحوَّلت رواية عبدالرحمن الشرقاوي إلى مسلسل إذاعي، أخرجه مصطفى صادق وشارك في بطولته محمد الطوخي الذي أدى دور «أبوسويلم» وحمدي غيث وصلاح منصور ولبنى عبدالعزيز.

وظل المسرح الابن الأكبر في حياة المليجي، وكان يؤجل ارتباطاته السينمائية من أجله، وشهدت كواليسه دراما موازية لما قدمه على خشبة مسرح «المدرسة الخديوية» وفرق «فاطمة رشدي» و«رمسيس» و«إسماعيل ياسين»، لكل منها حكايات ومواقف لا تقل إثارة عن «عطيل» و«هاملت» و«تاجر البندقية» و«الكونت دي مونت كريستو» وشكلت لحظات فارقة في حياته الخاصة.

في كواليس المسرح، شهد النقاد بموهبته المتفردة، وبكى عندما علم بوفاة والدته، وطرق الحب قلبه ليتزوج من رفيقة عمره الفنانة علوية جميل، والتقى لأول مرة بصديقه في الحياة وغريمه على الشاشة الفنان فريد شوقي، وتتلمذت على يديه أجيال من الممثلين، ولا يزال بعضهم يتذكر مواقفه معهم، ومن بينهم الفنان محمد صبحي، عندما أسند إليه المخرج السيد راضي أول بطولة مسرحية «انتهى الدرس يا غبي» 1975 تأليف لينين الرملي، ليقف إلى جانب العملاقين محمود المليجي وتوفيق الدقن، وكان اسماهما كافيين لإقبال الجمهور، وتعليق لافتة «كامل العدد».

المسرحية الأخيرة

تعد مسرحية «انتهى الدرس يا غبي» آخر ظهور للمليجي على خشبة المسرح، وقام بدور «البروفسور فريد» الذي يتمكن من إجراء جراحة للشاب سطوحي المتخلف عقلياً (محمد صبحي) ليزيد من نسبة ذكائه، ولكنه ينتكس مجدداً، وتقوم المعلمة نبيلة (هناء الشوربجي) بتأهيله من خلال بعض الدروس التعليمية. وفي النهاية يعتذر البروفسور عن خطئه لسطوحي، ويؤكد أن المحبة والعلم يشكلان الأسلوب الصحيح للارتقاء بذوي الاحتياجات الخاصة، وليس تحويلهم إلى حقول تجارب.

وقال البحر

ترك المليجي رصيداً من المسلسلات والسهرات التلفزيونية، رغم انتقاده الإمكانات المحدودة داخل الاستوديو خلال الستينيات، والتصوير لأكثر من سبع ساعات متصلة، ما تسبب في إرهاقه الشديد على مدار عشرات الأعمال التي شارك فيها، وتعرضه لمواقف محرجة، لكنه كان يتذكرها كجزء من متاعب مهنته، ولن يشعر بها الجمهور، الذي يرسم صورة خيالية للفنان وحياته المرهفة.

وتعرض «الشرير» لموقف لم ينسَه في إحدى السهرات الدرامية نهاية الستينيات، حين أصر المخرج على تصوير بعض المشاهد في يوم واحد. بدأت المعاناة في المشهد الأخير، وتطلب وقوفه في المحكمة للدفاع عن أحد المتهمين، وكانت كشافات الإضاءة تنبعث منها حرارة شديدة، وتصبب منه عرق غزير، وفوجئ أن شاربه المستعار يلتصق بأصابعه، وزميله الواقف أمامه يبتسم. لكنه عالج الأمر باحترافية، وأكمل التمثيل وهو يضع يده على الشارب المخلوع، كي لا يضطر إلى إعادة التصوير. والمفارقه أنه تلقى الإعجاب من بعض جمهوره على هذا المشهد.

وتتابعت رحلة عملاق التمثيل لتقترب من المحطة الأخيرة، ويشارك في الجزء الأول من مسلسل «أبواب المدينة» عام 1981، للكاتب أسامة أنور عكاشة والمخرج فخر الدين صلاح. تدور أحداثه حول بعض الوافدين من إحدى القرى إلى القاهرة، ويسكنون في أحد الأحياء الشعبية، ويتصدون لأطماع المعلم سيد الفولي (محمود المليجي) ومحاولته طرد السكان من منازلهم، لإقامة أبراج سكنية.

وتكرر لقاء المليجي مع دراما أسامة أنور عكاشة، في مسلسل «وقال البحر» 1982 إخراج محمد فاضل، ليرتدي قناع الشر مجدداً، ويجسد شخصية «مصطفى القرش» الذي يستغل الصيادين البسطاء، على خلفية التحولات التي طرأت على المجتمع المصري في السبعينيات. شارك في البطولة كل من عزت العلايلي، وجميل راتب، وفردوس عبدالحميد، وصلاح السعدني، وأمينة رزق، وسامي مغاوري.

المسلسل الأخير

في آخر ظهور تلفزيوني، أدى المليجي دور «اسابير المصري» في مسلسل «عمرو بن العاص» 1983، للمخرج عادل صادق وقصة طه شلبي، وشارك في البطولة مجدي وهبة وأحمد مظهر وشكري سرحان ويحيى شاهين، وإبراهيم خان والطفل أحمد عاطف (المخرج السينمائي حالياً)، وتدور أحداثه حول السيرة الذاتية للصحابي عمرو بن العاص.

سأعود بلا دموع

في السينما، تسارع الإيقاع للنجم ذي السبعين عاماً، وشارك المليجي خلال العام 1981 في ستة أفلام دفعة واحدة، وهي: «سأعود بلا دموع» للمخرج تيسير عبود، و«العرافة» للمخرج عاطف سالم وبطولة كل من مديحة كامل وعمر خورشيد ومديحة يسري، و«مسافر بلا طريق» إخراج علي عبدالخالق وبطولة كل من محمود ياسين وماجدة الخطيب، و«الإنسان يعيش مرة واحدة» إخراج سيمون صالح، و«ليلة شتاء دافئة» للمخرج أحمد فؤاد، وهما بطولة عادل إمام ويسرا، و«صراع العشاق» إخراج يحيى العلمي، وبطولة سهير رمزي وحسين فهمي وشكري سرحان.

ويعد فيلم «سأعود بلا دموع»، آخر لقاء جمع بين المليجي ورشدي أباظة على الشاشة، ومن خلال معالجة سينمائية لمسرحية «زيارة السيد العجوز» للكاتب السويسري فريدريش دورينمات، حول جابر (أباظة) وجمعة (المليجي) وهما عاملان في مصنع نسيج، تتعرض صداقتهما لاختبار صعب عندما يتخلى محمود ابن جابر (مصطفى فهمي) عن هند ابنة جمعة (مديحة كامل) ويزوجه والده من فتاة ثرية. وتختفي هند من القرية، وتعود بعد سنوات بعدما أصبحت سيدة أعمال، وتقرر الانتقام من الجميع.

رحلة عيون

أنهى عملاق التمثيل مشواره مع المخرج يوسف شاهين، والذي بدأ عام 1950 بدور تاجر الموبيليا في «بابا أمين» وانتهى بدور المحامي «شكري مراد» والد الشاب يحيى الحالم بالسفر إلى أميركا لدراسة الإخراج السينمائي في «إسكندرية ليه» 1979، و«حدوتة مصرية» عام 1982، وتروي السيرة الذاتية للمخرج في موطنه الإسكندرية، منذ فترة الأربعينيات خلال الحرب العالمية الثانية حتى السبعينيات. واستكمل شاهين أحداثها بعد رحيل المليجي «الأب» في «اسكندرية كمان وكمان» 1990، و«اسكندرية نيويورك» 2004.

وفي العام 1983، شارك المليجي في الفيلم السوداني «رحلة عيون» للمخرج نور هاشم، وتمثيل كل من صلاح ابن البادية، وسمية الألفي، وآمال المصري، ونجوى فؤاد، ومحمد علي عبدالحميد، والمطرب التونسي لطفي بوشناق.

تدور أحداثه حول شابين من السودان يفدان إلى القاهرة، ويكافحان أثناء دراستهما الجامعية، ويتعرف أحدهما إلى زميلته في الجامعة، ويتقدم للزواج منها، ويبارك الأهل من البلدين زواجهما، بينما الثاني يهوى الغناء، ولكنه ينجرف إلى طريق الانحراف.

وكانت هذه الأفلام بمنزلة إطلالة ما قبل النهاية لعملاق التمثيل، يودع بها جمهوره، ويصل إلى ذروة التألق في أدوار متباينة بين الخير والشر، ويلتقي بأجيال الشباب، آنذاك، مثل محمود ياسين، وعادل إمام، ويسرا، وسهير رمزي، ويمنح حضوره الساحر بهجة على الشاشة، ودروساً في فن التمثيل لا يمكن محوها من ذاكرة ووجدان المشاهد العربي.

مواظب على الصلاة

كرَّس المليجي حياته لفنه وأسرته، وعاش أجمل الأيام في رحلة عمره مع الفنانة علوية جميل، والتي امتدت نحو 44 عاماً، وخلالها كانت الزوجة القوية والأم الحنون.

قبل ذلك، وبعد فترة من الزواج كان الأطباء أخبروه بأنه لا يستطيع الإنجاب، وكان لديها ثلاثة أبناء من زوجها الأول، فتعامل معهم كأبنائه، لا سيما «إيزيس» التي كانت قريبة منه، وبعد زواجها تعلق بطفلها يسري وكان يصطحبه معه في كل مكان، وحرص على أن تلتقي الأسرة أسبوعياً، وكانت هذه اللقاءات من أسعد لحظات حياته، وفيها كانت تنطلق ضحكاته المجلجلة.

كانت أدوار الشر نقيضاً لذاته، وطيبته الزائدة وتدينه، وحرصه على قراءة القرآن والمواظبة على صلاة الجمعة في مسجد «باب اللوق» (وسط القاهرة)، ومعه صديقه الفنان عبدالمنعم إبراهيم. كذلك لم يُعرف عنه السهر في أماكن اللهو، مثل بعض زملائه، وظلت علاقته وطيدة بأشقائه، وكان يزورهم حاملاً الهدايا، حتى أنه بعد وفاة شقيقه حسن المليجي احتضن ابنه إيهاب الذي سار على درب عمه، وأصبح مخرجاً في التلفزيون المصري.

وتسارعت المشاهد في حياة عاشق التمثيل، لتتوقف الكاميرا إزاء باب شركته «النجم الفضي للإنتاج السينمائي» والمقابلة لشركة «ملك الترسو» فريد شوقي بشارع شريف في وسط القاهرة، ولقاءاته بأصدقائه المخرج كمال الشيخ والمونتير سعيد الشيخ والمخرج المسرحي أحمد زكي والممثل عبدالله الحفني، ووقوفه في المطبخ لتحضير صينية «المكرونة بالباشميل» والجلوس مع رفيقة عمره علوية جميل، وغيابه المفاجئ.

المشهد الأخير

بعد سنوات من أول لقاء بينهما في فيلم «من أجل امرأة» 1959 للمخرج كمال الشيخ، عاد النجم العالمي عمر الشريف ليلتقي عملاق التمثيل خلال تصوير «أيوب» عن قصة نجيب محفوظ، وإخراج هاني لاشين. جمعتهما مشاهد موازية في الكواليس، وقال المليجي: «يا أخي الحياة دي غريبة جداً... الإنسان ينام ويصحى كل يوم». فقال له الشريف: «إيه يا محمود... خلاص؟». لكن المليجي لم يجبه، ليكتشف الجميع أنه فارق الحياة، وودع الدنيا في 6 يونيو 1983، في المكان الذي عشقه وأمضى فيه سنوات طويلة من عمره، لتنتهي رحلته مع الفن التي دامت أكثر من 50 عاماً.

سقط العملاق إثر نوبة قلبية مفاجئة، وكان يمسك فنجان قهوته، أثناء جلوسه على كرسي متكئاً على طاولة البروفات مع عمر الشريف والمخرج هاني لاشين، والمفارقة أنه كان يقرأ مشهد وفاته في الفيلم، وفجأة انكفأ رأسه، وصرخ الشريف: «مالك يا محمود؟»، وعقدت الصدمة لسانه، بينما انهمرت دموع وصرخات العاملين في الاستوديو.

تلقت رفيقة عمره علوية جميل خبر رحيلة من دون أن تنطق بكلمة. تحجرت الدموع في عينيها، ولزمت الصمت خلال أيام العزاء. ظل الحزن يعتصر جسدها الواهن، وراحت تتذكر أيامها مع حبيب العمر فبدت رحلة الأربع وأربعين سنة كأنها لقطة خاطفة، منذ أول لقاء بينهما في كواليس مسرح رمسيس وزواجهما في عام 1939، حتى لحظة رحيل أغلى إنسان في حياتها، لتعيش على ذكراه حتى وفاتها عام 1994، ويظل حاضراً في ذاكرة أصدقائه ومحبيه وجمهوره العاشق لفنه وإبداعه المتفرد.

الأمم المتحدة تمنح المليجي درع «الأب القدوة»

لم يكن محمود المليجي سحابة عابرة في فضاء الفن، بل إن حضوره امتد حتى بعد الغياب، ونال تكريمات محلية ودولية. وفي العام 2010، كرَّمه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بإطلاق اسمه مع الفنانة أمينة رزق على الدورة الرابعة والثلاثين، تقديراً لعطائهما المتفرد في مجال التمثيل.

سجل النجم رصيداً يعادل ثلث الإنتاج السينمائي، ولم يصل إلى هذا المعدل أي ممثل من جيله، وانفرد بأكثر من 700 فيلم، و320 مسرحية، وعشرات الأدوار في الدراما الإذاعية والتلفزيونية، ليكون الممثل الأكثر تأثيراً في تاريخ السينما العربية.

وفي العام الماضي (2018)، اتجهت أنظار منظمة الأمم المتحدة للفنون إلى عملاق التمثيل، ومنحت درع «الأب القدوة» لاسم الفنان محمود المليجي، وتسلمته الإعلامية نجوى إبراهيم التي جسدت دور ابنته في فيلم «الأرض» 1970، وذلك في إطار احتفال المنظمة بعيد الأب، للمرة الثالثة على التوالي.

وسبق للمليجي أن نال تكريمات وجوائز عدة في حياته، من بينها وسام العلوم والفنون عام 1964، الذي تسلمه من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. وفي العام نفسه نال وسام الأرز من لبنان عن مجمل أعماله الفنية، وفي العام 1970 فاز بالجائزة الأولى للتمثيل عن دوره في فيلم «الأرض»، وفي 1972 حصد جائزة الدولة التشجيعية في التمثيل، وفي عيد الفن 1977 كرَّمه الرئيس الراحل محمد أنور السادات ومنحه شهادة تقدير عن عطائه المتميز، فضلاً عن أن السادات عينه عضواً في مجلس الشورى، ليصبح أول ممثل يحجز لنفسه مقعداً تحت قبة البرلمان المصري.

زوج علوية جميل يختفي في المطبخ مع «المكرونة بالباشميل»

«البروفيسور» يطارد محمد صبحي في «انتهى الدرس يا غبي»

أسامة أنور عكاشة يواجه «سيد الفولي» على «أبواب المدينة»
back to top