زيلينسكي رجل ما بعد حقبة الاتحاد السوفياتي

نشر في 14-05-2019
آخر تحديث 14-05-2019 | 00:00
تُعتبر شخصية زيلينسكي في دور معلّم المدرسة غولوبورودكو، نموذجاً من الرجل المحطم في السبعينيات: هجرته زوجته ويعيش مع ذويه في شقة يطغى عليها الطابع السوفياتي إلى أكبر حد قد تتخيله، أما الشخصيات في باحة المجمّع السكني المشتركة، فخرجوا على ما يبدو من بين الشخصيات الرئيسة في فيلم لشركة "موسفيلم".
 ذي أمريكان وصلتُ في مطلع العقد الماضي إلى مدرسة للدراسات العليا في مجال السينما في موسكو، ظننت أنني سأكون محاطاً بأشخاص مشغوفين بالسينما السوفياتية الرائدة، أشخاص أوفياء لاستعارات تاركوفسكي الروحانية الغامضة أو أعمال سيرغي آيزنشتاين الدعاية المتقنة، لكني فوجئتُ حين اكتشفتُ أن معظم زملائي الطلاب البالغين (كثيرون منهم من خارج موسكو، فضلاً عن مناطق البلطيق، القوقاز، وأوكرانيا) بدوا أكثر اهتماماً بتقليد الأعمال الدرامية النفسية الحلوة-المرة التي ظهرت في أواخر الحقبة السوفياتية.

كانت الأفلام التي عشقوها مناهضة للسوفياتية إلى حد ما لأنها ابتعدت عن روايات القوة العظمى وفضلت قصصاً خاصة عن الحب والصداقة، كذلك كان أبطال تلك الأفلام غالباً رجالاً متواضعين تعبين يبحثون عن بريق القيم (الصداقة، الوفاء، الحب) في عالم بارد ساخر.

عادت هذه الأفلام السوفياتية، التي كثُرت في سبعينيات القرن الماضي، بقوة إلى ذاكرتي عندما بدأتُ بمشاهدة مسلسل الرئيس الأوكراني الجديد فلاديمير زيلينسكي التلفزيوني "خادم الشعب" حيث يؤدي، كما سمعتم بالتأكيد، دور معلّم متواضع في مدرسة يصبح فجأة رئيساً. تبدو أغنيته الافتتاحية الجميلة بلحنها السهل وسخريتها اللطيفة مستخرجةً مباشرةً من فيلم من الحقبة السوفياتية المتأخرة:

أحب وطني، زوجتي، كلبي

أملك كل ما أحتاج إليه، اللباقة والشرف...

تُعتبر شخصية زيلينسكي، معلّم المدرسة غولوبورودكو، نموذجاً من الرجل المحطم في السبعينيات: هجرته زوجته ويعيش مع ذويه في شقة يطغى عليها الطابع السوفياتي إلى أكبر حد قد تتخيله، أما الشخصيات في باحة المجمّع السكني المشتركة، فخرجوا على ما يبدو من بين الشخصيات الرئيسة في فيلم لشركة "موسفيلم".

بعدما أُقحم غولوبورودكو في عالم سياسات الحكومة البشع، تراه رجلاً عادياً "محترماً" في أواخر الحقبة السوفياتية يحاول الحفاظ على قيمه في عالم شرير. يستمد إلهامه من شخصيات تاريخية عظيمة تخبره كيف عليه التصرف في أحلامه، مثل بلوتارخُس وأبراهام لنكولن. تنتمي تلك الشخصيات عموماً إلى المجموعة الغربية من الأبطال الديمقراطيين (لا تظهر الشخصيات التاريخية الأوكرانية إلا في مرحلة متقدمة من الموسم الثاني). وهكذا يندمج الجزء الإيجابي من إرث السوفياتية الثقافي مع طموحات حكومة غربية الطراز وتاريخ عالمي.

كما أخبرني الفيلسوف الأوكراني الحاد الذكاء فولوديمير يارمولنكو بادئ الأمر، تعود جاذبية زيلينسكي في جزء منها إلى أنه يقدّم لمن لا يزالون يشعرون بأنهم قريبون من الثقاقة الشعبية السوفياتية والروسية طريقة ليصبحوا أوروبيين سياسياً. فمنذ عام 1991، قامت الطريقة الرئيسة للتوجه نحو "أوروبا" في أوكرانيا على هوية أوكرانية ما بعد الاستعمار استندت، على غرار الكثير من مشاريع التحرر الوطني في القرنين التاسع عشر والعشرين، إلى اللغة وذكريات شهداء ضحوا بأنفسهم في سبيل الاستقلال على مر قرون كثيرة من الظلم الاستعماري، علماً أن هذه مقاربة حاول الرئيس السابق بوروشنكو تلخيصها في شعار حملته الانتخابية "الجيش، اللغة، الدين".

ولكن مع مقاربة زيلينسكي يستطيع الإنسان أن يصبح "أوروبياً" مع حفاظه على مزايا ثقافة المرحلة المتأخرة من الحقبة السوفياتية.

قد تثير هذه العملية استياء مَن خاطروا، وضحوا، وراهنوا بالكثير على مشروع التحرير الوطني الأوكراني على مر القرون، لكنها قد تعرقل أيضاً نموذج بوتين الثقافي عن العالم الروسي: تفتح مساحةً يمكنك فيها أخذ الروابط الإيجابية مع الثقافة السوفياتية ودمجها مع رغبة في الديمقراطية. لا تزال الأفلام السوفياتية العظيمة من أواخر السبعينيات تُعرض خلال فترات الذروة على شاشات التلفزة في روسيا وتُبث أيضاً إلى مَن يتحدثون الروسية في "جوار" ما بعد الاتحاد السوفياتي. ولا تزال المشاعر التي تعكسها (الرغبة في التمسك بالقيم في عالم شرير) تلقى أصداء إيجابية، وببثها إلى جانب دعاية بوتين المبالغ فيها على شاشات التلفزيون بنبرتها المخادعة الساخرة، نجح الكرملين في ربط الحنين الحزين إلى لباقة الأفلام السوفياتية الأقدم بطموحات جيو-سياسية: تعالَ من أجل الأفلام الجميلة الرقيقة التي تبرهن أنك تملك روحاً وابقَ من أجل عرض الشؤون المحلية البشع المليء بالكراهية الذي يخدم حاجات أخرى.

هنا تتجلى مهارة الكرملين: إتقان السخرية الحادة لتنمر قوة عظمى وتحليلها العاطفي كي ينجح في آن واحد في استمالة المتعجرفين والمتواضعين، وهكذا يكون طيف التجارب بأكمله مشمولاً في عالم روسي عظيم واحد من المشاعر تقود فيه كل الطرق العاطفية والروابط الثقافية إلى الكرملين.

إذاً، يشكل تفكيك جغرافيا الكرملين العاطفية بشتى الطرق بغية التفكير والإحساس بالروسية وبغية الشعور برابط مع الماضي مشروعاً تخريبياً مهماً.

من الممكن أن يلقى أصداء أيضاً في دول أخرى استعمرتها موسكو سابقاً، دول تشعر فيها أجزاء كبيرة من المجتمع الناطق بالروسية، الذي يتحدر من أناس انتقلوا إلى هناك بسبب التبدلات السكانية السوفياتية، أنها عالقة في مشاريع تحرير وطنية محلية تواجه صعوبة في الانتماء إليها بطبيعتها.

التقيتُ "أقليات روسية" من اللاتفيين والإستونيين تملك ولاء سياسياً كاملاً لوطنها في منطقة البلقان، إلا أنها تشعر بانجرار ثقافياً، فلا تريد أن تكون جزءاً من "العالم الروسي" الذي أسسه بوتين، إلا أنها تعجز في الوقت عينه عن التوصل إلى إحساس ثابت بالذات في مشاريع التحرير الوطنية المحيطة بها.

ويشكّل هذا تحدياً يؤدي إلى ولادة جيل مثير للاهتمام من الكتّاب والشعراء الذين يتناولون السؤال: كيف تكون في الوقت عينه لاتفياً، وإستونياً، وروسياً، وأوروبياً بطرق أكثر ذكاء (وإن أقل شعبية) من زيلينسكي؟

لا بد من التوضيح أنني لا أتناول هنا سياسات زيلينسكي التي تبدو غامضة على نحو مقلق. صحيح أنه يتحدث عن "محاربة الفساد"، ولكن لم يتضح بعد ما إذا كان جزء من جاذبيته يعود إلى تطبيقه المزيد من الإصلاحات أو إلغائه الإصلاحات القليلة التي نُفذت حتى اليوم والتي كبدت، على غرار تحقيق الاستقلال عن تدفق الطاقة الروسي، الشعب كلفة ومشقة كبيرتين.

يستاء الخبراء الأوكرانيون الأكثر خبرة الذين تحدثت إليهم من كل ما ناقشته عن دراما الهوية في هذا المقال، فزيلينسكي بالنسبة إليهم مجرد طبقة أخرى تغطي مجموعة إضافية ممن يسعون إلى استغلال البلد.

* بيتر بوميرانتسيف

* «ذي أميركان إنترست»

مع مقاربة زيلينسكي يستطيع الإنسان أن يصبح "أوروبياً" مع حفاظه على مزايا ثقافة المرحلة المتأخرة من الحقبة السوفياتية
back to top