السلطان «أورنجزيب»... والخليفة الأموي (2-2)

نشر في 28-03-2019
آخر تحديث 28-03-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر من حكام المسلمين الذين يشيد الإسلاميون بهم وبخاصة السلف باعتبارهم نموذج الحاكم، السلطان الهندي المسلم "أورنجزيب" من سلسلة الحكام المغول الذين حكموا الهند بعد دخول الإسلام إليها، وقد حكم "أورنجزيب" (1618-1707) الهند نحو نصف قرن ابتداء من عام 1658، واشتهر بمناصرته للدين، وبالورع والتقوى الذي قاده للأسف إلى التعصب والتشدد ثم التنكيل بالأغلبية الهندية الهندوسية.

وتقول المراجع إنه تمكن بسلسلة من المفاوضات والمناورات الماكرة من التغلب على أخيه الأكبر "دارا"، وعلى أخويه الآخرين وقتلهم، كما ألقى بأبيه "شاه جهان" بالسجن حتى وفاته، وتضيف "الموسوعة العربية الميسرة"، أن أورنجزيب "كان محبا للاطلاع والعلم، متقشفا في معيشته، واشتد في إقامة العدل بين رعيته والتمسك بأهداب الإسلام، واتسعت رقعة إمبراطوريته إلى أعظم ما بلغته في عهد المغول بالهند، ولكن الحروب الكثيرة التي شنها أضعفت البلاد، بحيث تمزقت أرجاؤها بعد وفاته".

و"أورنجزيب" هو أحد أبناء الملك "شاه جهان" المدفون مع زوجته "ممتاز محل" في المبنى التاريخي الرائع الجمال بالهند "تاج محل"، ورغم رقة عواطف "شاه جهان" ووفائه الشديد لزوجته التي أنجبت له الكثير من الأطفال حتى فارقت الحياة أثناء عملية الولادة وحزنه بعد وفاتها حزناً عميقا منعه من الزواج بعدها، فإن الملك "شاه جهان" والد "أورنجزيب"، كان من ناحية أخرى شديد الكراهية للهندوس والمسيحيين، وسلطاناً لا يعرف التسامح والتعددية، بعكس جده "السلطان أكبر" الذي عمل الكثير للتقريب بين المسلمين والهندوس، ورغم أن والدة "شاه جهان"، جدة "أورنجزيب" كانت أميرة هندوسية من الراجبوت، وهو شعب يقيم معظم أفراده في ولاية "راجستان" بالهند، وهم من طبقة المحاربين، ويزعمون أنهم من سلالة الآلهة "سادوا راجبوتانا".

ومن أحفاد السلطان أكبر ابن شاه جهان" دارا"، شقيق "أورنجزيب" وكان دارا مثل السلطان أكبر وبعكس "أورنجزيب" متسامحا يقرب الهندوس ويحب أن يدرس تراثهم حتى أنه أمر بترجمة كتاب الهندوس المقدس "أوبا نيشاد" إلى اللغة الفارسية، لغة البلاط الإسلامي المغولي في الهند، ومما يجدر ذكره وجود تراث ثقافي وشعري فارسي كبير من إنتاج أدباء الهند في هذه المرحلة، ويعرف هذا الشعر بالفارسية بعنوان "سَبْك هندي".

تولى "أورنجزيب" الحكم بعد أن سالت دماء كثيرة، وكان في الأربعين من عمره، ويضيف الباحث "محمد مرسي أبو الليل" في كتابه عن الهند، أن "دلهي" أصبحت آنذاك من أهم مراكز العالم الإسلامي، غير أن السلطان كان شديد الاهتمام "بأن يُطهِّر العقيدة الإسلامية من البدع والشرك والفساد، وحرم شرب الخمر ولعب الميسر، وطرد رجال اللهو من الموسيقيين والممثلين والرسامين وأمر بإعدام كل من يرتد عن الإسلام".

(الهند وتقاليدها وجغرافيتها، محمد مرسي أبو الليل، القاهرة 1965، ص149).

وتتحدث المراجع عن "أورنجزيب" Aurangzeb، وهو السلطان محيي الدين محمد الملقب بـ"عالمجير" Alamgir، وهي كلمة فارسية تعني "قاهر العالم" أو "فاتح البلدان". وتقول الموسوعة البريطانية، 1966، إن أورنجزيب بعكس السلطان أكبر كان مسلما سلفيا متشدداً A militant orthodox Sunni Muslim وأنه فرض أوامره وقوانينه التي كانت تتزايد في التزمت، معتمداً على المحتسبين والشرطة الأخلاقية. ومن تشريعاته الغريبة أنه أمر بإزالة الشهادتين من وجه العملات المعدنية المسكوكة لئلا تتنجس بيد الكفار، كما منع حاشيته من تبادل التحية بالطريقة الهندوسية.

وتضيف الموسوعة أن "أورنجزيب" كان قاسيا في تعامله مع الهندوس، فمنع احتفالاتهم وحدد مناسباتهم الدينية، وفي أغلب الأحيان كانت تماثيلهم الدينية ومعابدهم ومبانيهم المقدسة تُحطم، كما منع التوسع في توظيفهم وعندما تحداه أحد رجال الدين "السيخ" وهو "الغورو تيغ بها دور" أمر باعتقاله وطالبه باعتناق الإسلام ثم أمر بضرب رأسه عندما رفض، كما أمر بفرض الجزية على غير المسلمين، في حين كان "السلطان أكبر" قد أوقف فرضها على غير المسلمين في عهده.

ويقول الباحث "أبو الليل" إن "أورنجزيب" هدم معبداً كبيراً في "بنارس"- مدينة الهندوس المقدسة- وأقام مكانه مسجداً في وسط معقل الهندوسية، وأكبر مدنها المقدسة. ثم هدم معبدا آخر في "ماثورا" واستولى على كل ما كان فيه من الجواهر النفيسة ونقلها إلى "أكرا" وأمر أن يدوسها المصلون عند دخولهم أو خروجهم من المسجد، حتى اسم المدينة "ماثورا" الذي يرتبط بعبادة الإله "كرشنا" حذفه ووضع بدله "إسلام أباد". وقد طرد كثيرين من الهندوس من وظائف الدولة وأبقى من لا يمكن الاستغناء عنه، ثم وضع على الهندوس كثيراً من الضرائب المرهقة التي لا يدفعها المسلمون.

ويضيف الباحث أن الهندوس اجتمعوا أمام القصر السلطان وهم يصرخون وكانوا يزدحمون في كل طريق يمر منه السلطان، وأخيرا اضطروا إلى دفع الضرائب، وبدأت تظهر ثورات الهندوس الراجبوت، ولكن "أورنجزيب" لم يكن يهتم بإرضائهم، وكان يكرههم لأنهم نصروا أخاه "دارا شيكوه"، ولهذا انتهز كل فرصة للانتقام منهم.

واستولى أورنجزيب على إحدى ولايات الراجبوت بالقوة وهدم معابدها ونقل ولي العهد ابن المهراجا إلى دلهي لكي يلقنوه الإسلام في طفولته، ولكن جماعة من أنصار المهراجا الراحل أنقذوا ولي العهد وهربوا به إلى مكان بعيد كما هُرّبت أم الطفل.

وقام الراجبوت بثورة واسعة تحولت إلى حرب عصابات، فتعاطف ابن أورنجزيب مع الثوار ولكن الثورة استمرت فتعاطف ابنه الثاني "الأمير معظم" مع الثوار وانتقد سياسة أبيه في القضاء على الولايات الهندوسية الموالية للمسلمين، والتي تحمي حدود الدولة الجنوبية.

وفي النهاية يقول الباحث: "عاد أورنجزيب إلى العاصمة وتفرغ للصلاة والصيام فقد أدرك أن منيته حانت، وكتب إلى أبنائه يعتذر لهم عن سياسته معهم. وفي سنة 1707 فاضت روحه بعد أن أتعب البلاد، وبعد أن قضى حياته الطويلة محاولا تطهير الهند من الفساد والشرك وعبادة الأصنام، ولكن جهوده لم توصل إلى شيء سوى تدمير الدولة المغولية نفسها، وقد دفن مع زوجته في ضريح بسيط في قرية قريبة من دولت أباد، وقد أطلق عليها أورانجباد".

(الهند: تاريخها وتقاليدها وجغرافيتها، محمد مرسي أبو الليل، ص 153).

وقد نتساءل هنا، لماذا كانت نماذج الحكام الراغبة في تطبيق متشدد وحرفي للدولة الدينية أو ما يقترب من قوانينها غير قادرة على التكرار أو الاستمرار؟ وهل ظهور "الأحزاب الإسلامية" في هذا العصر كان لضمان بقاء السلطة في يد التيار الديني حتى إن قرر الحاكم الجديد تغيير طبيعة النظام ومساره؟ وماذا حدث بعد وفاة السلطان الهندي "أورنجزيب"؟

يقول الباحث: كما ذكرنا أن سياسات أورنجزيب أتعبت البلاد وأدت في النهاية إلى تدمير الدولة قبل أن يتوفى. ويضيف: "وبعد موته وقع ما كان ينتظر من النزاع على العرش، وفي النهاية تولى الحكم الأمير "معظم" وتسمى بلقب "بهادور شاه"، وكان رجلا طيبا يختلف عن أبيه. عقد صلحا مع الراجبوت ومع المراتا وأعاد إلى المراتا ولي عهدهم شاهو لكي يحكم واليا من قبله، وتوفي "بهادور سنة 1712". (ص153).

عرفت دول كثيرة حكاما متزمتين أو معادين للأقليات أو متعصبين لمذاهب معينة أو ممن حاولوا فرض نمط معين من السلوك الديني، ولكن لا أحد من أبناء تلك الشعوب، مثل بريطانيا وفرنسا وحتى اليابان يرى في تلك العصور والشخصيات حلا لمشاكلها المعاصرة... ولكن هل نحن كذلك؟

back to top