استراتيجية ترامب بشأن العراق متهورة

نشر في 25-02-2019
آخر تحديث 25-02-2019 | 00:00
 فوراين أفيرز تستعد القوات الأميركية للخروج من سورية، وفي أفغانستان يبدو خفض مماثل في عدد الجنود (وربما خروج دائم) وشيكاً مع تواصل محادثات السلام مع حركة طالبان، وفي الثاني من فبراير حوّل ترامب انتباهه إلى محور ثالث في الصراع في المنطقة: العراق.

فتح غزو الولايات المتحدة العراق في عام 2003 والاحتلال الكارثي الذي تلاه الباب أمام التمرد الإسلامي والطائفية في قلب العالم العربي، وساعدا أيضاً إيران في توسيع نفوذها، وما زالت المنطقة والعالم يعانيان العواقب، ولكن رغم هذا التاريخ المضطرب، تبقى القيادة العراقية منفتحة على نحو بارز على المساعدة الأمنية والدبلوماسية الأميركية.

تُعتبر هفوة ترامب أكثر إيلاماً لأن انفتاح العراق المتواصل على التعاون الأمني والاستخباراتي المثمر يميزه عن شركاء الولايات المتحدة كافةً في الشرق الأوسط، بما فيهم مصر والمملكة العربية السعودي، نتيجة لذلك يكون العراق حليفاً ضعيفاً لكنه حيوي وسور في وجه النفوذ الإيراني.

يشكّل الجهاز الاستخباراتي في البلد خير مثال، إذ تجمع وكالات متنافسة عدة المعلومات وتخوض عمليات لمكافحة الإرهاب، حيث تثق الولايات المتحدة ببعض هذه الوكالات وتزودها باستخبارات قيمة، وفي المقابل تثق إيران بوكالات أخرى، ولكن في مقابلة مع شبكة CBS، دعم ترامب، على ما يبدو، خفض التدخل الأميركي، معتبراً أن الولايات المتحدة تستطيع دوماً «العودة إذا شاءت»، لكن هذا خطأ، فلا يمكننا في ليلة وضحاها إعادة بناء الشراكات والبنية التحتية المكلفة التي تبقيها متماسكة.

تراجع التعاون الاستخباراتي في مرحلة سابقة عقب خفض عدد الجنود الأميركيين في عام 2011، وعندما بدأ مقاتلو داعش بالتدفق من سورية بُعيد ذلك، ما كان العراق مستعداً، ولكن بعد المرور بهذه الدورة من الانفصال، والصدمة الناجمة، وتجدد التعاون، يملك العراق والولايات المتحدة اليوم صورة أوضح عن قيمة هذه الشراكة وأهميتها، ومن الضروري أن يتعلّم القادة العراقيون أيضاً هذا الدرس، مع أن الضغوط السياسية المحلية تغريهم باتباع خط معارض للولايات المتحدة.

كان العراق البلد الذي دُمّر فيه النظام الإقليمي عام 2003، لذلك يشكّل نقطة الانطلاق المنطقية لمعالجة الهزات الارتدادية، ولا شك أن المساهمة في إعادة التوازن إلى المنطقة من خلال الدبلوماسية يشكّل استخداماً أفضل للنفوذ الأميركي، مقارنةَ بالضغط على الشركاء العراقيين وتحويل البلد إلى ساحة صراع للخصومة الأميركية-الإيرانية.

من المؤكد أن عملية إعادة التوازن هذه ستدفع السياسات المحلية والأوضاع الأمنية في العراق نحو الاستقرار، إلا أنها تشمل أيضاً إعادة إرساء الروابط مع الجيران العرب، هذه الروابط التي ضعفت بعد قرار صدام حسين المشؤوم غزو الكويت في شهر أغسطس عام 1990.

يشكّل مستقبل العراق محور اهتمام استراتيجياً لكبار اللاعبين في الشرق الأوسط، ويعود ذلك خصوصاً إلى موقع هذا البلد في نقطة مفصلية في عدد من العلاقات المهمة: بين الولايات المتحدة وإيران، وبين إيران والعالم العربي، وبين الدول العربية. تبنت أخيراً دول الخليج العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، مقاربة عملية للعراق، فقد أعادت السعودية ترسيخ الروابط الدبلوماسية مع هذا البلد، وفتحت مجدداً المعابر الحدودية، وأخذت مبادرة للتعاون الاقتصادي والأمني المستقبلي. تمثل هذه بالتأكيد خطوات طال انتظارها، ورغم ذلك لا تشكّل بعد إطار عمل شاملاً، علماً أن هذه مهمة طموحة ينبغي للولايات المتحدة أن تدعمها بكامل نفوذها.

يجب ألا تكتفي الدولة العراقية بالتصدي للوضع الأمني المضطرب غالباً، بل عليها أيضاً أن تعالج الفساد المستشري والصعوبة المزمنة في تأمين الخدمات الأساسية للناس. على سبيل المثال، قادت أزمة مياه الشرب في مناطق من البصرة إلى تظاهرات اتخذت منحى مميتاً الخريف الماضي، حيث ربط رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، الذي يتبوأ هذا المنصب منذ شهر أكتوبر عام 2018، مستقبله السياسي بوضوح بتقديم الخدمات الأساسية، حتى إنه أعطى هذا الهدف الأولوية على حساب تحقيق الوحدة السياسية في جكومته (أو حتى ملء مناصب مهمة). أخبرنا أحد مستشاري رئيس الوزراء: «أمامنا سنة أو ربما أقل لإصلاح هذا الوضع، فإذا لم ننجح في تزويد الناس بالمقدار الكافي من الكهرباء بحلول فصل الصيف، نكون قد خسرنا».

تتيح أزمة الحوكمة هذه للولايات المتحدة فرصة تقديم مساعدة ملموسة، ونظراً إلى ضيق الوقت، قد يكون عبدالمهدي مستعداً للعمل عن كثب مع الولايات المتحدة. تبحث بغداد عن عقود لشركات الطاقة الأميركية في مجال قطاع النفط العراقي، وقد بدأ مستشارون تقنيون دوليون وشركات أميركية بمساعدة العراق على التوصل إلى طريقة لتشغيل محطاته للطاقة باستخدام احتياطي الغاز الطبيعي غير المستثمر سابقاً في البلد. كذلك تتقبل الحكومة الجديدة مساعدة الولايات المتحدة في عدد من مسائل الحوكمة، مثل تنظيم وزارة الدفاع وترتيب مسار المعاملات التي على المواطنين إنجازها.

سهّلت واشنطن على العراق قبول مساعدتها بتقديمها هذه المساعدة مقابل كلفة سياسية متدنية نسبياً، وما كان باستطاعة العراق إنزال الهزيمة بداعش لولا الدعم الأميركي مثلاً، إلا أن الولايات المتحدة لم تفرض عليه رد الجميل بمنحها نفوذاً مفرطاً في السياسات العراقية بعد ذلك، وفي المقابل حاولت إيران باستمرار تعزيز نفوذ الميليشيات الموالية لها في النظام السياسي العراقي.

مع بدء الولايات المتحدة سحب قواتها من سورية وربما أفغانستان (محاولة تصحيح ضرورية إنما سيئة التنفيذ لمغالاة الولايات المتحدة في التوسع)، يشكّل العراق امتحاناً لقيمة التعاون المتواصل، وفي مرحلة من إعادة النظر الدقيقة في التزامات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، يقدّم العراق فرصة لبناء روابط دبلوماسية، وأمنية، واستخباراتية تعاكس الميول الراهنة وتعود بالفائدة على الطرفين.

لكن النجاح يعتمد في المقام الأول على تعقل وحسن تقدير إدارة افتقرت غالباً إلى هاتين الصفتين وتواصل رؤية العراق في مرتبة ثانية بالنسبة إلى أهدافه الإقليمية الرئيسة، حتى حين يتخبط العراق في نقص طاقة كبير، تحضه إدارة ترامب على التوقف عن شراء الطاقة من إيران. ما من مقدار من الدبلوماسية قد يتخطى هذا المستوى من قصر النظر، وإذا لم تعدّل الولايات المتحدة إطار مقاربتها إلى العراق، فستنجح في تقويض أحد المسارات القليلة المتبقية للتدخل البنّاء في المنطقة.

* «مايكل وحيد حنا»

back to top