لماذا يتصارع «الاحتياط الفدرالي» مع الأسواق على معدل الفائدة؟

«نحن في حالة اللايقين... أنصحكم بالتحوط والاحتفاظ بشيء من الكاش»

نشر في 18-01-2019
آخر تحديث 18-01-2019 | 00:05
محمد العريان
محمد العريان
التباين بين توقعات الأسواق بشأن مستقبل سياسة مجلس الاحتياط الفدرالي وبين قوة الاقتصاد الأميركي ناتج عما اعتادته الأسواق، وهو أن استمرار المطالبة بمزيد من السيولة سيمكنها من نيل مبتغاها في النهاية، أي الحصول على سيولة كافية من البنوك المركزية. ويلاحظ دعاة هذا الموقف أنه في كل مرة يستعد فيها مجلس الاحتياط الفدرالي لضرب الكرة تغير الأسواق اتجاهها بما يجبره على تغيير مساره.
احتاجت أسواق المال الأميركية أسبوعا كاملا لتستوعب تقرير الوظائف الأخير القوي جداً، اضافة الى مؤشرات التقدم في المحادثات التجارية بين واشنطن وبكين. وعلى الرغم من الاشارات الايجابية فإن المستثمرين والتجار يعتقدون أن مجلس الاحتياط الفدرالي سوف يتوقف عن رفع معدلات الفائدة في هذه السنة، وسوف يعود الى خفضها في 2020 و2021. ولهذا التضارب بين نظرة الأسواق لمعدلات الفائدة ومعطيات تقرير الوظائف الايجابي وكيفية حل التباين بينهما في نهاية المطاف مضاعفات مهمة بالنسبة الى استراتيجيات الاستثمار في السنة الجديدة.

لقد أظهر تقرير الوظائف الذي صدر في الرابع من هذا الشهر أن الاقتصاد الأميركي تمكن من خلق 312 ألف وظيفة في ديسمبر، وهو ضعف تقدير متوسط التوقعات. وإضافة الى المؤشرات القوية لسوق العمل، تمخضت مراجعة قراءة الشهرين الماضيين عن نمو في معدل الأجور الى 3.2 في المئة، مما يدل على أن القطاع الاستهلاكي العائلي -وهو المحرك الرئيسي وراء النمو في الاقتصاد الأميركي- يتمتع بزخم قوي. وهذه اشارة ايجابية بالنسبة الى الانفاق الاستهلاكي، ومن شأنها عادة أن تحفز الشركات على تحسين الانتاج والسعة، مما يعزز زخم النمو. وإضافة الى ذلك، فإن الميزانية التي أقرها الكونغرس السابق تشتمل على محفزات مالية مستمرة في هذه السنة.

وارتفعت أرباح سندات الخزينة الأميركية من مستوياتها المتردية عند اغلاق السوق في 3 يناير، وهو اليوم الذي سبق نشر تقارير الوظائف. إذ ارتفع عائد السند لسنتين من 2.38 في المئة الى 2.54 في المئة في الحادي عشر من يناير، والسند لعشر سنوات من أقل من 2.60 في المئة الى أكثر من 2.70 في المئة. وعلى الرغم من ذلك، فإن المستويات الاجمالية ظلت متدنية نسبياً في ضوء قوة معلومات سوق العمل. والأكثر من ذلك، فإن الفارق بين هذين الموعدين للاستحقاق اللذين يعتبران تاريخياً إشارة على احتمالات النمو يظل عند مستوى منخفض مثير للقلق من 16 نقطة أساس.

الأسواق التي لا تتوقع أي ارتفاع في الفائدة هذه السنة، وخفضا فيما بعد، تقدر معدلات صناديق الفدرالي في سنة 2020 بما يقل بنقطة أساس كاملة، مقارنة بنقاط البنك المركزي.

وتم طرح عدة أسباب لتفسير هذا الفارق اللافت ضمن ست نقاط على النحو التالي:

1 – تحسن الاقتصاد الأميركي: مع اظهار تقرير الوظائف تحسناً بنسبة 0.2 نقطة مئوية في معدل مشاركة العمل (من 62.9 في المئة الى 63.1 في المئة) وأجور أعلى وفرص عمل كافية جاءت معلومات «غولت» عن الشواغر من جديد عند حوالي 7 ملايين، وقد يشعر العمال بميل أكبر للعودة الى سوق العمل. وسوف يمكن هذا التطور مجلس الاحتياط الفدرالي من «ترك الاقتصاد ينطلق من دون خوف من تضخم أو عدم استقرار السوق، وهو ما سوف يلحق الضرر لاحقاً بالنمو وجودة الاقتصاد. ومثل هذه التحسينات في جانب الامداد سوف تسمح لمعدلات الفائدة المتدنية بأن تسود مع نمو قوي وبقدر أكبر أيضاً إذا تمكن الكونغرس والإدارة الأميركية من الاتفاق على مبادرة بنية تحتية انتاجية مؤيدة للنمو التي سبق أن أيدها الحزبان في الماضي.

2 – الأسواق تخيف مجلس الاحتياط: إن التباين بين توقعات الأسواق بشأن مستقبل سياسة مجلس الاحتياط الفدرالي وبين قوة الاقتصاد الأميركي ناتج عما اعتادته الأسواق، وهو أن استمرار المطالبة بمزيد من السيولة سيمكنها من نيل مبتغاها في النهاية، أي الحصول على سيولة كافية من البنوك المركزية. ويلاحظ دعاة هذا الموقف أنه في كل مرة يستعد فيها مجلس الاحتياط الفدرالي لضرب الكرة تغير الأسواق اتجاهها بما يجبره على تغيير مساره. وقد حدث هذا مراراً خلال رئاسة بن برنانكي وجانيت يلين لمجلس الاحتياط الفدرالي. والتغيرات الأخيرة في توجيه السياسة في مجلس الاحتياط في عهد جي باول تشير الى أن محاولات البنك المركزي السابقة لدور مختلف كانت قصيرة الأمد. وهي مسألة وقت قبل اضطرار البنك المركزي الأوروبي إلى العودة الى شراء أسهم ضمن برنامجه من التيسير الكمي، مع سيولة مفيدة للولايات المتحدة.

3 – الاقتصاد بخير لكن السياسة قد تتدخل: ان استمرار الاغلاق الحكومي، وهو الأطول في تاريخ الولايات المتحدة، يغذي القلق بأن الكونغرس المنقسم الذي نتجت عن الانتخابات النصفية في شهر نوفمبر الماضي سوف يفضي الى استقطاب سياسي أكبر قد يقوض التعافي الاقتصادي.

4 – المعلومات لا تتوافق مع المؤشرات المتقدمة: يجادل البعض في أن آخر تقرير عن سوق العمل لا يعبر عن اقتصاد قوي بما يكفي، على الرغم من أنه يمثل مؤشرا دقيقا عن قوة الاقتصاد في الماضي والحاضر. ومن أجل دعم هذه النظرة يشير المحللون الى معلومات اخرى نشرت (وخاصة التراجع الأخير في مؤشر الثقة والتوقعات المتعلقة بالأنشطة الاقتصادية المستقبلية.

5- أحوال بقية العالم تتدهور يوميا: أولئك الذين يؤيدون هذه النظرة يقرون بتفرد الاقتصاد الأميركي في قوته، ولكنهم يشعرون بقلق من أن ذلك الاقتصاد قد يصبح عرضة لتداعيات سلبية في مناطق اخرى من العالم. وتشير البيانات الاقتصادية لأوروبا الى درجة عالية من القلق كما لا يوجد دليل بسيط بعد على التأثير الايجابي للإجراءات التحفيزية الصينية. ويعكس هذا التحليل القلق من أنها مسألة وقت فقط قبل أن يجر الضعف في هاتين المنطقتين الاقتصاديتين الرئيسيتين معه الولايات المتحدة، ويبدأ بإنهاء حقبة زاهرة من التنوع الاقتصادي الأميركي وتفوق الأداء بصورة مستمرة. ولدعم هذا الموقف يشير البعض الى فارق عوائد السندات لعشر سنوات في الولايات المتحدة وسندات الحكومة الألمانية التي تقلصت في الأسابيع القليلة الماضية من 280 نقطة أساس الى 250 نقطة أساس الآن.

6 – الاقتصاد العالمي يتحرك بقوة رافعة: ويمضي البعض الى حد ملاحظة أن الزيادة المقلقة في المديونيات حول العالم -وخاصة في قطاع الشركات- وكذلك جيوب المجازفة المفرطة في الأسواق سوف تلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي بحيث يضطر مجلس الاحتياط الفدرالي الى خفض معدلات الفائدة، ويضطر البنك المركزي الأوروبي الى العودة الى التيسير الكمي من أجل تفادي تداعيات مؤذية.

وتحديد أي واحد من هذه التفسيرات الستة هو الأكثر صلاحاً يشكل أهمية حقيقية بالنسبة الى مراكز محافظ المستثمرين. وعلى سبيل المثال، فإن السيناريو الأول سيشتمل على مجازفة كبيرة ازاء التقلبات في ضوء قيام الأساسيات بدفع الاقتصاد والأسواق الى الأمام من خلال مواصلة التشديد السابق لأوانه من جانب مجلس الاحتياط الفدرالي. وسوف يشير التفسير الثاني (الأسواق تخيف مجلس الاحتياط الفدرالي) الى تموضع أكثر تكتيكاً للمجازفة، اذ ينطوي على توقع موجة سيولة متجددة من البنك المركزي مع الاستعداد لفقاعة جديدة قبل أن تنفجر.

ورغم ما يشتمل عليه هذا من إحباط لا توجد معلومات حتى الآن تشير بدرجة عالية من الثقة الى تفسير مهيمن أو مجموعة من التفسيرات. وإضافة الى ذلك فإن معظم نماذج المحافظ الاستثمارية المبنية تاريخياً على التحليل قد لا تكون قوية من الوجهة الهيكلية لالتقاط هذه اللحظة بصورة دقيقة.

وبدلاً من ترك الشك يفضي الى شلل أو مضاربة مفرطة ازاء تفسير واحد أو أكثر من التفسيرات يتعين على المستثمرين تلقف ثلاث رسائل: نحن في فترة من الشكوك الاقتصادية والمالية والسياسية الهائلة، وحالة انعدام الاستقرار، وعدم امكانية التنبؤ، كما أن الأخطار الرئيسية التي تواجه الاقتصاد الأميركي هي سياسية وليست هيكلية وهي خارجية ومالية بالأساس، وتبدو فرصة ارتكاب خطأ سياسي ما أو وقوع حدث مفاجئ في ازدياد. وهذا يستدعي تحوطا مع توافر مبالغ نقدية - كاش - من أجل الاستفادة من فرص فنية محتملة.

* بقلم: محمد العريان

*(بلومبرغ)

back to top